بقلم - جميل مطر
بينما قررت أطراف بعينها، من بينها الدول العربية، التعامل مع حرب فلسطين الدائرة حاليا كقضية محدودة ومحددة المكان والزمان، حدثت تطورات ووقعت أفعال كشفت عن أن التفاصيل اليومية لحرب غزة والضفة الغربية ليست سوى القمة الظاهرة من جبل جليد. جبل عامر بالأساطير والخرافات والغرائب وبقصص من الكتب الدينية وبجماعات استيطان يهودية إرهابية أو عصابات إجرامية من بروكلين الأمريكية ومثيلاتها فى شرق أوروبا وفرنسا ومن ألمانيا، عامر أيضا بخطط بدت كما لو كانت دبرت بعناية قبل شن الحرب ضد الضفة الغربية ثم ضد غزة لتفريغهما ولتثبيت الدول العربية داخل قوالب حديدية تشل حرية حركتها وتستكمل بها إجراءات إخضاعها للهيمنة الإسرائيلية. من هذه التطورات والأفعال والغرائب المهمة والمؤثرة وهى كثيرة اخترت ما يلى:
أولا: استمرار القتال فى غزة إلى ما بعد المائة يوم
كانت المعركة وما زالت تدور بين أفراد أو مجموعات منهم من ناحية، ومن ناحية أخرى دولة كان جيشها فخرها وأمريكا القطب الأوحد حليفها، أقصد شريكها والمتواطئ معها تخطيطا وتنفيذا وحماية من حاملة طائرات يرافقها أسطولها. كادت المعركة باستمرارها وخسائرها على الجانب الإسرائيلى وبطولة مقاتليها على الجانب الفلسطينى تستحق فى صفوف مفكرى العرب وعامتهم صفة الملحمة كما كان يروى عن بعض حروب الأقدمين.
عادت القضية الفلسطينية تحتل موقع الصدارة فى اهتمامات الناس وبخاصة الأجيال الجديدة التى انشغلت لعقود بمسليات ترفيهية حفلت بها ثورة السوشيال ميديا. اليوم يتحدث شباب العرب وبكل اعتزاز وفخر عن شجاعة المقاوم الفلسطينى العربى وعدالة قضيته وعن بطولات وكرم أخلاق وحسن معاملة شهد بها أسرى يهود أفرج عنهم. بالمناسبة، وبحكم المنطق أيضا، تدحرجت مكانة السلطة الحاكمة فى رام الله ومعها حراسها نحو مزيد من الهامشية، ليس فقط لدى شعب الضفة وغزة ولكن أيضا فى الأوساط الإسرائيلية والدولية وبخاصة فى عالم الجنوب.
ثانيا: حكاية ألمانيا
لعلها الحكاية الأكثر تعقيدا على الفهم والتعامل فيما صار يعرف بمجتمع حرب غزة. فهمنا الموقف الأمريكى وإن مال عدد من المسئولين العرب إلى ادعاء الاندهاش لهذا الموقف باعتبار أمريكا حليفة للعرب. وفهمنا الموقف البريطانى الذى جىء باللورد كاميرون من أجل تطبيقه ضد الحوثيين فى اليمن على الوجه الذى يستحقه مثل هذا الجانب من تراث الإمبراطورية وتقاليد الاستعمار البريطانى. لم يفهم أكثرنا التعقيدات الغريبة فى الموقف الألمانى. المشكلة مع أبناء جيلى أننا نضجنا فى فترة كانت ألمانيا واليابان تستعيدان مجدا صناعيا بسرعة وثبات. كانتا محل إعجابنا نحن سكان العالم النامى. لذلك يجد بعضنا صعوبة فى تفسير هذا الالتصاق الألمانى الشاذ بإسرائيل وممارستها بشغف وتدين عملية الإبادة البشرية لشعب كامل. أظن، ولن أكون مخطئا، أن ألمانيا فقدت تعاطفنا وسوف تفقد علاقات طيبة بكثير من أبناء جيلى وأجيال جاءت من بعدى. زادنا اقتناعا بسلامة موقفنا وخطأ الموقف الألمانى الغريب ما حدث من رد فعل ناميبيا، إحدى مستعمرات ألمانيا الأفريقية، قبل وخلال انعقاد جلستى محكمة العدل الدولية المخصصتين لمناقشة الدعوى الرائعة، محتوى وصياغة وعلما، المرفوعة من حكومة جنوب أفريقيا ضد ما اعتبرته سياسة إسرائيلية ممنهجة لإجراء عمليات إبادة بشرية لسكان غزة. تبين أن أجيالا أفريقية وراء أجيال وأجيال عربية وآسيوية لم يكن قد نما إلى علمها فى غمرة عشقها وانبهارها بالصعود الألمانى أن ألمانيا نفسها مارست الإبادة البشرية على نطاق واسع ضد شعب ناميبيا فى الفترة ما بين 1904 و1908 أى حتى قبل أن يصل المدعو هتلر إلى سدة المستشارية فى برلين وبطبيعة الحال قبل أن يمارس الإبادة ضد اليهود. ألمانيا الآن مطالبة من جانب الرأى العام العالمى، خاصة أهل الجنوب العالمى، بالاعتذار لشعب ناميبيا والإعراب عن نيتها دفع التعويضات اللازمة كما فعلت مع إسرائيل. ألمانيا قبل أمريكا وبريطانيا «العظمى» مطالبة بالتكفير عن ذنب عظيم وعن ارتكابها فعلا شريرا فى حق شعب فلسطين ومن قبله شعب ناميبيا.
من ناحية أخرى سمعت من دبلوماسى شرق أوروبى اعتقاده أنه بسبب هذا الموقف الألمانى من أحداث غزة فالمتوقع فى العقود القادمة ألا ترتاح شعوب شرق أوروبا للتعامل المكثف مع ألمانيا أو التحالف الوثيق معها خشية أن تعود فتمارس الإبادة مجددا أو تدفع حلف الأطلسى إلى ممارستها فى مواقع الأزمات الأوروبية وخارجها.
ثالثا: غرائب التراث
قرأت أن مسئولا إسرائيليا ألقى فى جنوده خطبة حفلت بكثير من غرائب القول والتاريخ مع احترامى وتقديرى للظروف والعقائد التى احتوت على هذه الغرائب أو بشرت بها. سمعت وأنا طفل ينام كل ليلة على حكايات ألف ليلة وليلة وحكايات من التراث الدينى لمختلف الشعوب. عدت فى الأسبوع الماضى أى فى الألفية الثانية بعد الميلاد لأسمع نقلا عن هذا المسئول، وهو نفسه المسئول عن تنفيذ هذه المذبحة البشرية، وهو أيضا المتهم فى عرضه وشرفه، عدت لأسمع نقلا عنه هو وغيره من وزراء التطرف الدينى يدعو جنوده لذبح الفلسطينيين، رجالا ونساء وشيوخا وأطفالا وكل حيواناتهم الأليفة تنفيذا للدعوة الإلهية إلى بنى إسرائيل قبل نحو 3500 سنة لإبادة «العماليق»، وفى سردية أخرى أطلق عليهم «الجبارين»، سكان الأرض التى نزل فيها الإسرائيليون بعد خروجهم من مصر.
أعرف أن مسئولين أوروبيين يخشون أن تنعكس حرب غزة على أوروبا فى شكل موجة من العداء للسامية تحملها وتنفذها جماعات وحركات يمينية متطرفة. أعرف أيضا وبكل ثقة أن دولنا العربية وشعوبها معرضة الآن وربما لعقود عديدة قادمة لتهديد مماثل نتيجة عمليات القتل والتشريد التى يتعرض لها «عماليق» هذه الأيام، هم سكان الأرض التى نزل إليها «إسرائيليو» أيامنا. جاء فى كتب التراث عن عماليق تلك الأيام وأنقل حرفيا «فالآن اذهب واضرب عماليق وحرموا كل ما له، ولا تعف عنهم، بل أقتل رجلا وامرأة، طفلا ورضيعا، بقرا وغنما، جملا وحمارا». هذه النصوص وغيرها تناقشه الآن بجدية واضحة أحاديث كثير من رواد صالونات السياسة فى عواصم عربية، وأمامهم على الشاشات مسئولون إسرائيليون فردوا خرائط اختفت منها الحدود السياسية لدول المشرق العربى وحل محلها لون واحد وعنوان كبير هو «خريطة دولة إسرائيل».
رابعا: لاهاى وجنوب أفريقيا
لم أتفاجأ تماما بما فعلته دولة جنوب أفريقيا برفعها دعوى ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية. انبهرت بمذكرة الدعوى وازداد انبهارى عندما صرح لى الصديق ورجل القانون الدولى المعروف الدكتور على الغتيت بأن المذكرة وثيقة يجب الاعتزاز بها كوثيقة نادرة من جميع النواحى. انبهرت بالمذكرة ولم أتفاجأ بموقف جنوب أفريقيا. قضينا الأعوام الأخيرة نراقب ونتحسس ثورة فى المهد تتفجر فى أنحاء شتى من القارة السمراء. بدت لنا أفريقيا وقد قررت أخيرا أن سياسة الانصياع والخضوع لأدوات الاستعمار الجديد لم تجلب إلا تعطيل التقدم وتراكم عناصر التخلف. كان واضحا فى الوقت نفسه أن الغرب يعود باندفاع وطاقة تنافسية جديدة لفرض نوع مختلف من الاستعمار تحت أسماء مبتكرة وقد انضمت الولايات المتحدة إلى القوى الأوروبية بذريعة التصدى للصين. انتهينا إلى قناعة مفادها أن موقف جنوب أفريقيا من إسرائيل إنما هو إلى جانب أصوله التاريخية فى تجربة الأبارتايد ودور إسرائيل فى تعضيدها عملا ثوريا أو على الأقل انتفاضة أفريقية قوية ضد سياسات الغرب والنظام الدولى بشكله الراهن وتأييد لحركة الجنوب العالمى نحو التقدم.
خامسا: روسيا والصين
بدا لى ولغيرى صوتهما خافتا على امتداد حرب الضفة وغزة. تفهمت الأمر. راح اعتقادى إلى أن الدولتين توصلتا مبكرا إلى أن الشرق الأوسط مقبل على تغييرات عظمى. توصلتا أيضا إلى أن كلا من أفريقيا وأمريكا اللاتينية تقف على فوهة بركان يوشك أن ينفجر فالدلائل غير قليلة سواء ما ارتبط بها بأزمة الاقتصاد العالمى أو ما تعلق بصعود تيارات قومية بتوجهات معادية للغرب. من الدلائل أيضا، وربما على رأسها، الوضع القلق، سياسيا واجتماعيا، فى الولايات المتحدة الأمريكية، وهو المتسبب فى أنواع شتى من التوتر وعدم اليقين فى دول عديدة بحكم مكانة الولايات المتحدة كقوة ما تزال عظيمة التأثير فى مجريات السياسة الدولية. بدا هذا الأمر واضحا بما لا يدع مجالا كبيرا للشك عندما تدخلت الولايات المتحدة بقوات عسكرية هائلة وتعبئة سياسية معتبرة، تدخلت بما يشبه التواطؤ مع إسرائيل فى حرب إبادة واضحة المعالم ضد شعب يحاول الحصول على حقه فى إقامة دولته المستقلة على أرضه. بهذا التدخل وبما أعقبه من أخطاء فى السياسة الخارجية ارتكبتها أجهزتها العسكرية والدبلوماسية فقدت أمريكا لصالح الصين وروسيا أرصدة هامة كانت لها فى الشرق الأوسط وأوروبا والجنوب العالمى.
●●●
أتصور أن الحرب ضد الضفة وغزة كما أوضاع السياسة فى الداخل الأمريكى وفى الداخل الإسرائيلى والقلق السائد فى شتى أنحاء الشرق الأوسط دخلت جميعها مرحلة حرجة. فى هذه المرحلة سوف تسعى أطراف إلى الإسراع فى لملمة خسائرها وفى الغالب بدون ضرورة للاشتباك مع أطراف أخرى. من ناحية ثانية توجد أطراف متزايدة العدد سوف تسعى للاستفادة من فرص لم تكن لتتوفر لولا الفوضى التى أتاحتها هذه الحرب والوحشية التى اتسمت بها.