بقلم -جميل مطر
لا تفسير لكثير من ممارسات السياسيين وقراراتهم هذه الأيام وردود فعلنا إلا بإقرار أننا جميعًا، سياسيين ومواطنين، نعيش حالة انتقالية طالت وتمددت وتفشت حتى طغت. لا أحد من علماء العلاقات الدولية، ومن المراقبين، والمعلقين، والمهتمين، إلا وكتب فى تبرير أخطاء وزلات السياسيين بالقول إن العالم ينتقل من نظام دولى إلى نظام دولى جديد لم تتحدد معالمه بعد.
بمعنى آخر، يفترضون أن لا شىء آخر يدفع الحكام وغيرهم من رجال ونساء السياسة لاتخاذ ما يتخذون من قرارات ومواقف وما يمارسون من سياسات، لا شىء إلا أنهم جميعًا مقتنعون، صراحة أو ضمنًا، أن الصراع بين الأقطاب على مواقع فى قيادة العالم بدأ فعلا، وأنه مع هذا البدء صارت جميع النخب الحاكمة والقوى القريبة منها تعتقد أن الفرصة حانت ويجب ألا تفلت. سمعتها على لسان أكثر من صانع سياسة، وسمعتها تتردد على لسان أكثر من سياسى معارض فى أكثر من دولة. لكل فرصته، والكل عازم على حمايتها مستعد لبذل ما يملك فى سبيلها، متيقنًا أنها من نوع لا يتكرر كل يوم أو كل عام. الفرصة لم تتح بشكلها الراهن إلا بعد أكثر من سبعين سنة. نرى آثار هذا الصراع، وهذا التعلق المستميت بالفرصة، فى كل نشرة إخبارية مصورة، وتهزنا هزًا بعض لفحاتها الحارة، وتكاد بسببها تتوقف حركة الأشياء والحياة العادية، أحيانًا لساعات وأحيانًا لشهور وسنوات، وقفات حادة نعيشها هذه الأيام شهودًا عليها أو شركاء فيها... من هذه الوقفات:
أولا.. فاجنر وبوتين
واحد من الاثنين هدد بإضاعة فرصة من أجل فرصة أخرى لاحت له. اشتبكا فى صراع سخيف حول تراتيب فى السلطة العسكرية، وفى ظل سوء فهم للتطورات المحيطة بهما. ومع ذلك، لم يكن هذا وحده هو جوهر حكاية فاجنر وبوتين.. ففى الجوهر عناصر أخرى مثل طموحات وترهل المؤسسات الروسية، وخلافات العسكريين، وخزائن القنابل النووية، وطبيعة حكم الرجل الفرد، والتشوه حين يضرب وبعنف ثقافة أمة، والطغيان حين يصبح سمة سلوك الأغنياء، والسباق على ثروات أفريقيا تشبها بالغرب، والتخطيط السيئ لحرب أوكرانيا، والأداء غير اللائق فيها.. كلها، وليس التمرد وحده، شكلت جوهر الحكاية، حكاية فاجنر وبوتين. حانت الفرصة لكليهما، وضاعت ولن تستعاد.
للجوهر حواش لا يخلو منها أمر له صلة بحال العلاقات بين الكبار. لكل دولة كبيرة، وفى الغالب لكل دولة صاعدة أو متطلعة، مجمع عسكرى اقتصادى. عرفناه على لسان الجنرال أيزنهاور حين آل على نفسه ألا يترك الحكم فى واشنطن إلا بعد أن يدلى بتحذير للأمة الأمريكية من تهديد هذا المجمع لأمنها واستقرارها ورخائها. كانت شركة فاجنر صرحًا مهمًا من صروح المجمع العسكرى المالى والإجرامى فى الدولة الروسية، وأحد أعمدة السباق الاستعمارى فى أفريقيا، وعلامة من علامات صراع السباق على مواقع فى قيادة العالم فى المستقبل.
كانت ضربة قاسية لنظام الرئيس بوتين، وله شخصيًا، تلك التى وجهها قائد شركة فاجنر. أصابت بالضرر المكتوم علاقات روسيا الخارجية ومكانتها وبخاصة فى دول الجوار؛ حيث يهجع أمن القلب الروسى منذ مئات السنين. كانت، وفى ظنى، فى بعض مراحلها ثمرة جهود أجهزة بريطانية بمساعدة أمريكية. بريطانيا، كما أراها، عادت تمارس بحرية أنشطة خارجية بعد أن تحللت من قيود الانتماء للاتحاد الأوروبى.. وأوكرانيا إحدى ثمار هذه الحرية المستعادة.
لا حاجة لنا بخبرة مرموقة فى ميدان العلاقات الدولية فى زمن انتقالى لندرك أن ضربة فاجنر للرئيس بوتين كانت موجعة، وربما سوف تبقى أحد أهم أسباب الانحدار الثانى لمكانة روسيا فى مواقع القيادة الدولية فى المستقبل. لا أقول جاءت لمصلحة الصين، فالصعود الصينى تجاوز بعقود حلقة الحاجة لدعم الجار الروسى أو غيره. يبقى فى المؤامرة غموض وتصرفات لا تعتمد المنطق ولا يقبلها العقل، ولكنها فى كل الأحوال جاءت منسجمة مع مزاج أعمال وسلوكيات العنف، وكلها صارت من سمات المرحلة الانتقالية فى العلاقات الدولية، تكاد لا تخلو منها السياسة والسلوك الاجتماعى فى أى دولة شرقية كانت أم غربية، شمالية كانت أو جنوبية.
ثانيًا.. مؤتمر باريس لإصلاح المؤسسات المالية الدولية
انعقد المؤتمر البالغ الأهمية ولم يخلف أثرًا بقدر هذه الأهمية البالغة. يأتى المؤتمر متأخرًا. كان يجب فى أحسن الأحوال أن يأتى فى أعقاب الأزمة المالية العالمية فى عامى 2007 ــ 2008، وبنوايا وخطط أطيب. خطورة هذا المؤتمر، من الناحية النظرية على الأقل، أنه قد يتسبب إن فشل أو تباطأ فى تخلف الجهود الحثيثة المبذولة من أجل تمهيد أرضية القمة الدولية وهياكل وأبنية النظام الدولى استعدادًا لنظام جديد بقيادة جديدة وفكر جديد. قالها صراحة جوتيريش، الرجل المكلف برعاية هذه الهياكل والأبنية، بعد أن توصل، دون أن يفصح، إلى أن الإصلاح جهد ضائع، إنما الحاجة تستدعى نظامًا مختلفًا يعتمد على واقع كاد يختلف جوهريًا عن الواقع الذى تعيش فيه شعوب هذا العالم، وبخاصة شعوبه الفقيرة والأكثر عددًا. كان التجانس ينعدم بين المؤسسات المالية الراهنة، كما المؤسسات السياسية والرئيسة فى المنظومة الدولية مثل مجلس الأمن، والأوضاع الحقيقية على أرض الواقع. الخلل حقيقى، والثقة المتبادلة منعدمة، والأزمات تتلاحق، والعلاجات ــ إن وجدت ــ فسطحية، والحال فى مجمله رهيب، بل ومتسبب بدرجة أو أخرى فى إبقاء نيران الغضب والعنف فى كافة أنحاء العالم مشتعلة؛ ولهيبها يتعدى الحدود، ويتجاوز القوانين، ويهدد السلام والاستقرار حيثما وجدا.
يتجاهلون أو لعلهم يتنكرون لحقيقة أن الحاجة ماسة لوضع قواعد جديدة تنظم الكثير من أنشطة ومؤسسات العمل الدولى فى كل المجالات، وليس فقط فى قواعد عمل المؤسسات المالية. ليس سرًا ولا خافيًا أن من وضع القواعد القائمة لا يريد ولا يتمنى أن يراها تتغير. تغيرت أوزان جميع الدول فى مختلف مؤسسات العمل الدولى، ولم تتغير القواعد. لن تفيد التغييرات الجمالية والشكلية، فالأزمة الاقتصادية الدولية ناجمة عن تغيرات جوهرية فى أسس النظام الدولى، وليس فى تفرعاته وصياغة أساليبه، أو فى مسوغات ومواصفات القائمين على إدارته.
ثالثًا.. الهند والصين
أغرقونا بمواد إعلامية وأكاديمية فى محاولات جادة لإقناعنا بأن الهند طرف مناسب فى منظومة متخيلة لنظام دولى جديد. المعلومات الحقيقة ما تزال تؤكد أن الهند بعيدة عن أن تتساوى بالصين أو تقترب منها. سمعت من أكاديمى هندى أحترم علمه ومعلوماته أن القيادة الهندية، وإن كانت ترحب بالحملة الغربية التى تقودها أمريكا لرفع مكانة الهند المتخيلة إلى أعلى مما تستحقه، إلا أنها غير قادرة فعليًا وبإمكانات الهند وظروفها السياسية الراهنة أن تحتل مواقع فى القيادة الدولية هى غير مؤهلة لها، أو على الأقل لم تحن الفرصة لها لتفعل ذلك. نعم المنافسة مع الصين على النفوذ فى جنوب آسيا ووسطها واجبة، وربما مفروضة عليها، وبخاصة فى مناطق الحدود الصعبة، ولكن السباق مع الصين يبدأ الآن وتحت الضغط الأمريكى من مواقع غير متقدمة؛ فالصين بدأت الصعود مبكرًا وفى ظروف أفضل. لا معنى إطلاقًا لاعتبار الهند فى ظروفها الراهنة خصمًا للصين أو متسابقة معها على نفس المستوى لمجرد أنها تجاوزت ذات يوم فى الشهور الأخيرة بمولود جديد عدد سكان الصين. المنافسة فى المرحلة الراهنة غير مبررة، بل ضارة بشعبى الطرفين، وقد حذر من الوقوع فى فخها «لى كوان يو» القائد القوى الذى صنع من سنغافورة لؤلؤة التقدم والتحضر معًا فى جنوب آسيا فى وقت مبكر. أعرف الكثير أو القليل عن الهند، وأعرف الكثير أو القليل عن الصين. أتمنى لكليهما مواصلة طريق الصعود، ولكل منهما الإمكانات التى تؤهله لموقع مرتفع، ولكنى أرى الازدهار إن سلكا طرق الصعود بعيدًا عن ضغوط وإيحاءات الأحلاف العسكرية والسياسية، وبخاصة تلك التى تنجر إليها الهند جرًا مع أستراليا واليابان؛ فللمنافسة مع الصين ثمن يمكن أن يلتهم عائد الإنجاز فى كل نواحى التقدم والصعود. ثم إن الهند ما زالت تواجه صعوبات اجتماعية وسياسية تزيد عنفًا وقسوة وصلابة عن مثيلاتها فى الصين، وبخاصة ناحية العلاقات بين الأديان والقوميات والطوائف، حتى إن قضية العلاقة بين الأغلبية الحاكمة فى الصين والأقلية الإيغورية فى الشمال الغربى تصبح بسيطة إذا قورنت بالعلاقة بين الأغلبية الهندوسية الحاكمة فى الهند والأقلية المسلمة المنتشرة فى أغلب ولايات الهند وفى مختلف مواقعها الصناعية والتكنولوجية. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى تظل مسألة النظام الطبقى المتحجر فى الهند حجر عثرة فى وجه اندماج حقيقى للأمة الهندية. لا شك عندى أن استمرار تحفيز الهند والصين على تصعيد وتسريع المنافسة بينهما خدمة لأهداف نظام دولى تحت الصنع، سيأتى على حساب السلام فى آسيا ورخاء وسرعة اندماج كل شعب من الشعبين.
• • •
الشكوى من تصاعد العنف تتردد فى أنحاء متفرقة من العالم. الشرق الأوسط ليس فريدًا، ففى أفريقيا موجات العنف شديدة وكثيرة التردد، وكذلك فى مجتمعات أمريكا اللاتينية وأوروبا وفى أمريكا نفسها. الأسباب لا شك كثيرة وبعضها لا شك توطن نتيجة توحش القمع والفقر، ولكن أغلبيتها يمكن أن يجد تفسيرًا وليس تبريرًا له فى أن نظامًا دوليًا انفرط بالفعل، وما بقى من معالمه وهياكله لا يمت لحقيقة التوازنات الدولية بصلة، وأن نظامًا دوليًا جديدًا متعثرة خطوات تكوينه.