بقلم - جميل مطر
يوما بعد يوم يتعزز الاحتمال بأن تزداد فرص نشأة تجمع من دول أغلبها ينتمى إلى العالم النامى تبحث لنفسها مجتمعة عن موقع فى خريطة توزيع جديد للقوى الدولية. أغلب الظن أن الظروف الدولية الراهنة والمتوقعة تدفع هذه الدول نحو الأخذ بصيغة تقترب من صيغة الحياد الإيجابى وعدم الانحياز التى تبنتها قبل حوالى سبعين عاما مجموعة دول حديثة الاستقلال السياسى بهدف تحصين هذا الاستقلال والنأى بشعوبها عن صراع عقائدى وعن براثن استعمار جديد. وقتئذ ساد الاقتناع بأن الوقوع فى شبكات هذا الصراع سوف يعرقل النمو ويشوه صورة الاستقلال ويعيد سطوة الهيمنة الأجنبية.
وقفت عوامل بعينها وراء جهود ومساعٍ وأفكار تشكيل تجمع يضم دولا بعينها ويقترب بالشجن أو بالتمنى من تجمع دول الحياد الإيجابى فى أوائل الخمسينيات من القرن الماضى. وقتها كانت الحرب الباردة فى أوج انطلاقتها وكثيرون يشبهون هذه الحالة بالحالة الراهنة فى العلاقات بين الدول العظمى. واقع الحال يتجاوز هذا الشبه إلى متغيرات دولية استجدت وبعضها ربما كان بالمقارنة لا يقل أهمية عن متغيرات ذلك العصر. أحاول هنا، وإن بصعوبة، حصر بعض تفاصيل هذه المتغيرات أو العوامل فى فقرات موجزة تهدف أساسا إلى إلقاء الضوء عليها، ففى اعتقادى أن الإيجاز فى مثل هذه التطورات وإن تجاوز أو تهاون فى عرض الموضوع فلن يضعف من أهمية طرحها أملا فى إثارة نقاش مفيد حولها. طرحتها مجتمعة أو مجزأة على زملاء سابقين وأصدقاء حاضرين وبالفعل دار حولها نقاش أكثره مفيد. أعرض من هذه المتغيرات والحوارات ما يلى:
أولا: اقتراب متزايد ومتصاعد من نهاية منظومة قواعد وهياكل وضوابط النظام الاقتصادى العالمى التى نظمتها وصاغتها اتفاقات بريتون وودز قرب نهاية الحرب العالمية الثانية. تحت هذا العنوان تندرج قضايا وتطورات بالغة الأهمية إحداها، ولعله أهمها على الإطلاق، بدايات تراجع خجول ولكن جرىء لسلطة الدولار الأمريكى وسيادته وهيمنته. أقول بدايات وخجول لأننا لم نتعرف بعد على رد الفعل الأمريكى على الخطوات الأولى التى أقدمت على اتخاذها بعض الدول فى سعيها للدوران حول أزمة القروض وقضايا وصعوبات تمويل استيراد المحاصيل الغذائية والسلع الأساسية، أو على قرارات السماح لدفع فواتير النفط بعملات محلية وعملات دولية أخرى غير الدولار. هذه الدول لا شك أنها تعيش أيامها الراهنة تحت توقع رد فعل غير ودى من جانب الولايات المتحدة، رد فعل قد يشمل دولا فى الاتحاد الأوروبى. لا يخالجنى شك كبير فى أن هذه الدول تسعى للحصول على دعم دول أخرى منتجة ومستوردة للطاقة أو للحبوب والأسمدة والأسلحة، وفى سعيها هذا تفضل الحث على تشكيل حركة أو مجموعة تضم الدول المتضررة من هيمنة الدولار لتمثل جهة ضغط فى النظام الدولى تحمى حقوقها ضد ما تتوقعه من إجراءات حرب اقتصادية تشنها أمريكا ضدها.
يلحق بقضية هيمنة الدولار قضايا اقتصادية ذات صلة وثيقة بالتنمية. من هذه القضايا الصعوبات المتزايدة المرتبطة بتعاملات الدول النامية مع المؤسسات المالية والاقتصادية الدولية التى تهيمن على قراراتها سلطة ونفوذ أمريكا ودول ممولة أخرى. غير خافية الجهود المبذولة حاليا لإنشاء مؤسسات بديلة أو الاستفادة من مبادرات تقدمها دول وتكتلات متخصصة أو إقليمية لدعم تنمية شعوب العالم النامى. المشكلة التى ما تزال تواجه حكومات الدول النامية تكمن فى أن المؤسسات البديلة يقع أغلبها تحت مظلة قوى كبرى تعتبرها الولايات المتحدة منافسة لها، وبالتالى سوف تتعرض الدول المتعاونة معها لإجراءات حروب اقتصادية شرسة تشنها أمريكا بضراوة.
فى حد ذاتها صارت الحروب الاقتصادية والتشنجات الناتجة عنها سمة بارزة من أهم سمات المرحلة الراهنة من مراحل تطور النظام الدولى. لم تعد تقتصر على العلاقات بين دول القمة بل تجاوزتها لتصير سيفا مسلطا على جميع الدول التى تختار مواجهة النفوذ الأمريكى أو التوسع فيه على حساب مصالحها. المثال الذى يتبادر فورا للذهن يتعلق بما يتوقعه نظام حكم الرئيس لولا دا سيلفا فى البرازيل. لقد فاز الزعيم البرازيلى فى انتخابات الرئاسة ضد رغبة وإرادة واشنطن ورغبة وجهود وأموال المحافظين فى القارة اللاتينية وضد مصالح صناعة الأخشاب والتجارة فيها وضد أموال ونفوذ مصالح أوروبية. أظن مع كثيرين غيرى أن أمريكا لن تتأخر فى أن تفرض على الرئيس البرازيلى خفض نشاطه ولجم علاقاته بروسيا والصين والتوقف عن دعوة دول أخرى فى أفريقيا وأمريكا اللاتينية للانضمام لمجموعة البريكس التى تضم إلى جانب البرازيل كلا من الهند واتحاد جنوب أفريقيا، ولكنها تضم أيضا روسيا والصين، القوتان اللتان تدخلان مع الولايات المتحدة والغرب عموما فى سباق منافسة، الذى هو فى شكله ومضمونه الراهن أقرب شىء ممكن لنموذج الحرب الباردة.
لا تتوقف عند هذا الحد علامات ومؤشرات التحول فى النظام الاقتصادى العالمى. المؤكد مثلا، فى اعتقاد الكثيرين، أننا نعيش مرحلة حرجة وربما حاسمة فى تاريخ تطور النظام الرأسمالى. المؤكد أيضا أن حرب أوكرانيا تسببت فى وقوع شرخ يتعمق بالتدريج فى هيكل ومنظومة وحلف دول الغرب، وفى الوقت نفسه عجلت بسباق تسلح رهيب طرفاه الصين وأمريكا كما استحضرت «عفريت» العسكرة إلى داخل كل من اليابان وألمانيا. وليس خافيا على من عاش أو درس تجربة الحرب العالمية الثانية مغزى هذا التطور الخطير.
●●●
ثانيا: بمعنى من المعانى نعيش فى نهايات عصر ازدهرت فيه الأيديولوجيات التقليدية وأقصد بها تلك التى أفرزتها تطورات الثورة الصناعية وصعود الطبقة الوسطى فى مدن التجارة. كان لنا فى العالم النامى والخارج لتوه من تحت عباءة الاستعمار الغربى نصيب من سباق الأيديولوجيات وصراعاتها. نذكر كيف تلونت حركات استقلال بألوان يسار وأخرى التزمت رأسمالية خلفها الاستعمار الغربى، وعندما اجتمع فى باندونج قادة دول حديثة الاستقلال كان طبيعيا رغم اختلاف الألوان انشغالهم بفكرة الحق فى أن تشارك دولهم فى صنع القرارات الدولية. سيطرت وقتها طروحات تأمين الاستقلال الوليد وحماية دولهم من الصراع المخيف الناشئ بين الولايات المتحدة ومعسكرها من ناحية والاتحاد السوفييتى ومعسكره من ناحية أخرى، وارتفع فى معظم أنحاء العالم النامى شعار لا شرقية ولا غربية.
مرة أخرى وبعد أكثر من سبعين عاما يرتفع الشعار نفسه من خلال سعى، معلن أو متكتم أو خجول ومتردد، فى عديد أرجاء العالم النامى لممارسة سياسات واتخاذ مواقف أقل تبعية أو أكثر ابتعادا عن مواقع الصراع الناشب بين العمالقة. ومعهما، وأقصد مع رفع الشعار والسعى للتمايز وتأكيد الاستقلال، تطل برأسها من جديد أيديولوجية ظلت كامنة بفعل ضغوط عديدة. هى القومية تبدأ فورات وطنية كما حدث فى مرحلة النضال ضد الاستعمار وتنتهى عقيدة بهياكل وقواعد وآفاق تتجاوز أحيانا حدودها القطرية والوطنية إلى حدود إقليمية ولتغطى قضايا متنوعة. هذه القومية، كأيديولوجية، أشد تهديدا لمصالح الدول العظمى من التهديد الذى تمثله الأيديولوجيات الأخرى رأسمالية كانت أم اشتراكية. يتأكد هذا الرأى بالحال الذى آلت إليه مختلف التجارب القومية فى عديد أقاليم العالم التى تعرضت وتتعرض لضغوط الغرب بخاصة. هذه الأيديولوجية العائدة نجدها وراء سعى دول متزايدة العدد لتبنى، أو العودة إلى تبنى، سياسات عدم الانحياز.
●●●
ثالثا: لا أتجاوز الاعتدال الواجب فى الرأى عند مناقشة قضايا لم تحسم بعد جميع نهاياتها ولا أتجنى على حكومات دول العالم النامى عندما أشهد بأن تجربة العقود الأخيرة فى أحوال وعلاقات الدول النامية تثبت أن الفشل وليس الإنجاز كان من نصيب العدد الأكبر من هذه الدول. لا أستثنى مجموعة الدول العربية بل أجد نفسى مجبرا، بحكم المشاهدة ومعظم النهايات، أن أعتبرها من النماذج المثيرة للقلق ولا أقول اليأس وها هى السودان تعرض الدعم لما أقول. أتفهم ميل معظم حكومات دول فى العالم النامى ومن العالم المتقدم وبخاصة فى آسيا وأوروبا لانتهاج سياسات حياد، نعلم عن ضعفها فى مواجهة ضغوط الدول الكبرى، ونعلم عن نقص تجاربها فى التعامل مع مرحلة سريعة التغير والتقلب فى عالم منتقل، ونعلم عن دول بعض حكوماتها أو أكثرها غير مؤهل سياسيا أو اقتصاديا للعمل المنفرد أو ضمن تجمعات صغيرة، ونعلم بالتأكيد أن الأكثرية العظمى من هذه الدول، ورغم فشلها، ترفض الاستمرار تابعة.
●●●
الانضمام لتكتل غير منحاز قد يكون الضمان الأمثل لدول عديدة فى ظروف صعبة كالتى يمر بها عالم اليوم. من حق كل الدول وليس مجموعة صغيرة جدا، كالحادث الآن، اتخاذ القرارات التى تمس حقوق ومصالح شعوب الدنيا كافة. إلا أنه يتعين على الدول التى حرمت طويلا فى مرحلة القطب الواحد من ممارسة حقها فى المشاركة أن تدرك أنه ينتظرها عقوبات ومطاردات وإجراءات، بعضها عنيف، قبل أن يتحقق لها غرضها فى التزام الحياد الإيجابى سياسة وموقفا بين قطبين أو معسكرين يستعدان لصراع مديد.