بقلم - جميل مطر
أشكو لك رجلا من جنسك ولكنه لا يشبهك فى شىء. هذا الرجل تزوجته قبل عشر سنوات ولعلمك يا صديقى الأقرب كنت أنت وبشكل غير مباشر عنصرا ساهم فى التمهيد لهذا الزواج. لا تجزع فأنت لم تقابله بل ولم تُدعَ لحفلات ولا لغيرها من مناسبات العرس ولكنك كنت حاضرا بالسمع. كنت أحكى لك أولا بأول التفاصيل غير الحميمة لفترات التعارف ثم مراحل الخطوبة. توقفت عن زيارتك عند انتقالى إلى بيت الزوجية. ابتعدت عنك ولدى أسبابى وأنا هنا اليوم لتسمعها منى قبل أن تسمعها عنى.
• • •
عد معى من فضلك إلى ما قبل السنوات العشر. جرت العادة التى استننتها بنفسك أن نقضى فترة بعد كل اجتماع نتبادل فيها الروايات عن الصعاب التى تواجهنا فى حياتنا الخاصة ونحاول مجتمعين المساهمة فى تذليلها. أذكر أن تفيدة، زميلتنا فى المكتب، كادت تكون الشخص الوحيد فى هذه المجموعة الذى لا يشكو من متاعب أو من مشاكل استعصى حلها. احترنا فى أمرها إذ إنها كانت بالفعل تتميز بامتلاكها طاقة هائلة من الرغبة فى حل مشاكل الزملاء وفى الوقت نفسه تصر على أن حياتها خالية من المشكلات. وبالفعل كانت رفقتها السلسة والناعمة فى العمل نموذجا تتمناه مجموعات العمل الأخرى.
عشت، ولا شك تذكر، سنوات صعبة. حكيت لكم وقتها عن بعضها فى صيغة الشكوى المرة كيف كانت عائلتى تتفكك تحت ضغوط عديدة. لم أذق طعم حنان الأب وانشغلت أمى عنى بمحاولاتها إنقاذ زواجها وتدبير مصروفات مدرستى وبيتها. حرمت فى طفولتى من متع عديدة. أظن أننى لم أعش لحظة واحدة فى حضن أمين. تعرفت على أحضان كثيرة، أحضان عابرة وأحضان قسرية وأحضان مجاملة، كلها قصيرة وجافة تخلف وراءها ولدقائق كثيرة أعصابا نافرة بالغضب أو بالفضول وأغلبها كالقبل العنيفة أو أحادية الطرف تترك فى الحلق مرارة تأبى إلا أن تبقى. رجل البيت والدا كان أم زوجا كانت شيمته اللامبالاة وفى الغالب الإهمال. عانيت من الصفتين اللتين دفعتا أمى إلى التعنت فى تربيتى.
حرمتنى من الاختلاط خارج البيت بزميلات المدرسة ثم بزميلات وزملاء العمل. كانت تقضى ساعات تمتحن بذكائها المحدود حصيلتى وما استجد عليها من معلومات عن الآخر، أقصد عن الصبيان ثم عن جنس الرجال. كرهت الصنف من العيش مع أب وأم متكارهين ومتنافرين وأحيانا كثيرة متشابكين بالأيدى. ليال عديدة قضيتها فى فراشى أبكى، وفى الصباح آتى إليكم فى المكتب وهالة السواد تحت عيناى لا تخطئها عيون الزملاء وبخاصة تفيدة التى كانت تطلب منى اصطحابها إلى الحمام وهناك تتولى مع بعض مراهم وألوان التجميل تحسين ما أفسده البكاء.
نعم هى تفيدة التى أقنعتك بأن لا حل لمشكلتى إلا بالزواج. زواج يخلصنى من عذابات العيش فى بيت أمى وأبى. أقنعتك أيضا بضرورة البحث معها عن رجل يصلح زوجا لى. كانت واثقة من أننى بمفردى وبدون مشاركة قوية من جانبكما معا لن أعثر على الشخص المناسب. كانت تفيدة تعرف أننى غير مؤهلة للقيام بهذا البحث. كانت تقول عنى أننى أشك فى أمانة يد رجل تمتد لتصافحنى وفى صدق لسان رجل يحاول أن يخاطبنى وأشك فى طهر أى رجل يقترب منى. لعلك تذكر أنك وافقت بلا تردد على قولها، قول تفيدة، عن أن ظروفى العائلية والنفسية تدهورت إلى درجة لم تعد تحتمل عندها الاستمرار فى الوضع القائم أو تأجيل التغيير.
عرفت فيما بعد أن تفيدة رشحت للزواج منى رجلا كان يزورك بين الحين والآخر وفهمت منك أنكما تلتقيان عادة مع آخرين فى مقهى بحى من أحياء القاهرة. عرفت أيضا أنك أبديت ملاحظات عن الرجل كادت تجعلها تتردد فى الترشيح. ذكرت مثلا أنه فى تصرفات معينة لا يختلف كثيرا عن أبى. ذكرت أيضا أنه مادى التفكير وربما كان ممسكا فى نواحى الإنفاق الترفية وأنك على كل حال لم تعرف عنه تاريخا يكشف عن ميل نحو الأدب والعلم. على الناحية الأخرى بدا لك فى الوقت نفسه بسيطا عادى المواهب والطموحات. وفى النهاية توصلتما إلى قرار أنه الرجل المناسب لى فى الظروف التى أعيش فى ظلها والتى تزداد تدهورا. التقينا جميعا، كما تذكر، فى كازينو قصر النيل وكان يوم جمعة وأبلغتكما بموافقتى يوم الأحد التالى مباشرة. أذكر بجلاء تام أننى كنت فى ذلك اليوم منهكة الجسد متعبة النفس والعقل. كدت أكون أيضا فاقدة الثقة فى أن المستقبل قد يكون أكثر رفقا بى وأقل تزمتا. آمنت وقتها بأن حظى فى الحياة خطته أياد استهانت بحقى فى أن أحيا حياة كريمة وواجبى أن أتقبل بالرضا أو بغيره كل ما ترميه الأيام فى حجرى. اقتنعت بأنكم بحكم الضرورة التى فرضتها ظروفى اخترتما الرجل المناسب فتزوجنا.
• • •
نعم وافقت وتزوجته. تجاهلت مثل غالبية فتيات مصر مسألة الحب كشرط من شروط زواج ناجح. أصارحك القول، وقد صارحت به الزميلة تفيدة فى حينها، أننى تزوجته لأنكما اخترتماه ولأننى لم أحلم يوما بالحب ولأننى أيضا اقتنعت بفكرة الضرورة فى مثل حالتى. عشنا معا مرحلة الضرورة ويهمنى أن تعرف أن وجوده خلالها كان لازما. يهمنى أيضا أن أعترف أنه ما أن انتهت المرحلة حتى بدأت أشعر بحاجتى إلى ما تنازلت عنه احتراما لدواعى الضرورة وأسبقيتها. صحيح أنه استجاب بجد واجتهاد لمواجهة الظروف الأشد ضراوة فى حياتى وقتها ولكنه لم يتمكن من إطفاء جذوة جمرة نشأت وتراكمت عواطفها ورغباتها فى ظل هدوء ما بعد ظروف الضرورة. تركته يفعل بالبيت ما شاء أن يفعل. اختار لحوائطه الألوان ولم يستشرنى. انتقى لخدمتى خدما ولحمايتى حراسا ثم كلفهم بأن يحسبوا عدد خطواتى ويسجلوا تحركاتى. وضع لى خرائط طريق لا أتجاوزها ونسج حولى ومن أجل تسليتى شبكات اجتماعية لا يحق لى تجاوزها أو تغييرها. راح بعد قليل وبين اللحظة والأخرى يختبر مشاعرى تجاهه ليكتشف أنها سلبية فتصيبه الدهشة. ألم يكن البطل فى حياتى الجديدة؟. ألم يكن مبعوث العناية الإلهية المكلف بإنقاذى من ظلامية وقسوة حياتى الأولى؟. ألم يكن رمز ما هو آت؟.
ها أنا أعود إليكما أنت وتفيدة بعد أن زالت الضرورة. عدت لأحمل لكما خبر نضوجى ولأنقل لكما ولكل الدنيا حاجتى إلى الحب.