توقيت القاهرة المحلي 16:35:03 آخر تحديث
  مصر اليوم -

أنا كمان بحب الحكي عن الماضي

  مصر اليوم -

أنا كمان بحب الحكي عن الماضي

بقلم - جميل مطر

جربت القراءة والكتابة عن المستقبل إلى حد أننى أقنعت زملاء وأصدقاء فأقمنا للمستقبل مركزا بحثيا. لم تدم المتعة طويلا. اكتشفنا أن للاهتمام بالمستقبل شروطا يجدر توافرها ولم يتوفر لنا أغلبها ومنغصات يصعب تفاديها وفشلنا فى تفادى أغلبها. كانت نتيجة هذا الاكتشاف أننى توقفت إلا قليلا عن الكتابة فى مستقبل الأمور وأكثرت من الكتابة عن الماضى.
●●●
الآن أعترف أننى أحب الحكى عن الماضى. شجعنى اليوم على إصدار هذا الاعتراف مقال كتبته الأستاذة ليلى الراعى ونشرته ذات يوم من أيام الأسبوع الماضى وتعتذر فيه للرومانسية. تقول ليلى إنه لم يعد هناك وقت أو مجال يسمح بالعيش فى أجواء الماضى بكل تفاصيله الصغيرة والكبيرة، «فهى دائما قريبة من القلب حينما تفيض بى هذه المشاعر، وتأخذنى الذكريات بكل ما فيها من لحظات محببة».
أحسنت ليلى التعبير عما يجول فى داخلى معظم الوقت. أنا لا أعتذر. يعنى مثلا يحدث لى كثيرا أن أستيقظ وفى خطتى وترتيب أولويات يومى الكتابة عن مصير بلد من البلاد أو شعب من الشعوب تعرض أيهما لكارثة أو لحرب أو لمجرد شقاق. فجأة أجد نفسى مسحوب الإرادة، روحا وجسدا وقلبا، نحو ماضٍ محبوب يختزن حكايات شتى عن تدشين علاقات، منها مثلا علاقات أقمتها مع كتب أو أقامتها كتب معى.
●●●
أذكر جيدا وبكل الوعى والحب أيامى الأولى مع الكتب. أذكر سعادتى وإحساسى الفريد فى نوعه، إحساس شاب صغير فى عمره كبير فى فضوله يفتح شيئا لم يفتحه أحد قبله. كنت فى السابعة عشر ضيفا شبه منتظم على مكتبة للاستعلامات الأمريكية بحى جاردن سيتى. يعرفنى بالاسم أمناء المكتبة فى جميع أقسامها، المراجع وصالة القراءة وقسم الدوريات وغرفة الموسيقى الكلاسيكية. ذات صباح كنت كعادتى أجلس للقراءة فى غرفة الدوريات عندما جاء إلى الركن الذى اخترته منذ أول يوم لى فى المكتبة المستر ليتش الأمين العام للمكتبة وسحب مقعدا من بعيد وهو يستأذن. جلس وفاتحنى بسؤال عن أوقات فراغى وسؤال تالٍ عن استعدادى لتوفير عشرين ساعة أسبوعيا للعمل فى المكتبة مقابل أجر معقول يدفع لى كل أربعة أسابيع. فهمت وقتها أننى سوف أشغل وظيفة متدرب، أما الترجمة الدقيقة للوظيفة كما ظهرت أمامى فى كشف أجور ومرتبات موظفى المكتبة فكانت «صبى مكتبة». ينص قرار تعيينى على أن أقوم بتسلم شحنات الكتب الجديدة التى تصل كل ثلاثة شهور. أراجع عناوين الكتب مع العناوين المدرجة فى مذكرة التكليف الصادرة من السفارة إلى واشنطن لشراء الكتب وإرسالها لنا. بعد التأكد من مطابقة مذكرة التكليف مع محتويات صناديق الشحنة أسلم الكتب إلى رئيس قسم التصنيف وأنفذ ما يطلبه من مساعدة فنية. أساعد أيضا رئيسة قسم المراجع وأمين مكتبة الموسيقى وأمينة مكتبة الأطفال. كل هؤلاء تكلفوا بمهمة تدريبى لمدة أسبوع قبل مباشرة العمل معهم.
●●●
متعة لا تعادلها أى متعة حصلت عليها فى سنوات العمل الدبلوماسى. مرة أخرى أذكر بكل الخير ليلى الراعى التى كتبت تقول «أنتمى إلى هذا الجيل الذى يقدر الورق.. يعشق ملمسه، ويعرف رائحته.. تقلب صفحات الصحيفة فيصدر هذا الصوت الذى يرن فى الأذن فيبعث البهجة». أظن أنها كانت من اللحظات النادرة فى عمق الأحاسيس المرافقة لها، لحظة فتح صندوق يحتوى على ما لا يقل عن مائة كتاب، لحظة انطلاق رائحة الورق مختلطة برائحتى الحبر والصمغ.
●●●
تدربت وأنا فى هذا العمر الصغير على فن استخدام المراجع حتى صرت هدفا يستعين به باحثون من طلبة وأساتذة فى مختلف المجالات. لم يكن هناك جوجل أو ويكيبيديا إنما قامت فلورا رزق بدورهما قبل أن نتعرف عليهما. فلورا كانت كالأسطورة فى علم المعلومات بمفاهيم ذلك الزمن وأنا شخصيا عشت مدينا لها بما علمتنى إياه. لا أعرف أين هى الآن إنما أعرف أنهم فى هارفارد سمعوا عنها فسعوا إليها حتى حصلوا عليها.
تدربت أيضا فى المكتبة على ما لا يقل أهمية من صناعة البحث عن المعلومات وتوفيرها لمستحقيها من طلبة وأساتذة. تدربت على العمل مع آخرين ومن الجنسين ومن كل الأعمار ومن معتنقى الديانتين. كنت هناك أخا وزميلا وصديقا وابنا ومرؤوسا ورئيسا، كنت عضوا فاعلا فى مجتمع صغير. لعبت كل هذه الأدوار فى سلام وأمان وهنا ورضا، أجواء لم يتوفر لى مثلها بنفس العمق والاطمئنان فى أى موقع آخر عملت فيه. وما أكثر المواقع التى عملت فيها مرورا أو سنينا عديدة. جربت مهنا شتى. اشتغلت بالمكتبات حتى سن العشرين فكانت أول وأروع نصيب، واشتغلت بالدبلوماسية وصاهرتها وتعلمت فيها ما لم أكن أعلم، واشتغلت بالتدريس فى مرحلة الدراسات العليا وخلالها كنت أساعد مع طلاب آخرين فى مطعم الجامعة مقابل أجور رمزية. اشتغلت أيضا بالبحث العلمى غير القابل للاختلاط البشرى وبالصحافة القابلة لاختلاط بشرى مكثف ومتنوع ولظروف وتحديات تراوحت بين القسوة البالغة والتعاطف المفرط. هنا فى هذه المهنة اجتمعت خبراتى التى تشربتها عبر ستة عقود وما يزيد. عقود التقيت فيها بأروع الناس خلقا وبأفظعهم طباعا. عشتها كلها وأنا واعٍ لحقيقة تعلمتها صغيرا. الأيام لا تكرر نفسها. ما فات منها لن يعود. عشتها واعٍ لحقيقة أخرى. لا أندم ما حييت على قطار مر على محطتى ولم يتوقف. يومها كتبت صديقتى بغضب «كنت على المحطة فى انتظار قطارك. مر القطار صارخا فى صخب ولم يتوقف. هل كنت وراء اختيار قطار لا يتوقف فى محطتنا؟».
●●●
نعم كانت، وما تزال، مرحلة حافلة بالآمال الكبار والفرص الهائلة ولكنها فى الوقت نفسه كانت، ولا تزال، مرحلة الفرص الضائعة بامتياز والوعود الزائلة بطبيعتها. أنا غير عاتب على زمانى. كان كريما. لم يبخل وأنا لم أسرف. كنت كزمانى كريما. أعطيت أكثر مما أخذت وكلما ضاقت بى فى الحاضر سبل السعادة عدت إلى الماضى أسحب من رصيدى المودع فى خزائنه. يا صديقتى: لن أعتذر للماضى فهو مدين لى بالكثير من أيام ابتهاجه وليالى فرحه وسعادته.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

أنا كمان بحب الحكي عن الماضي أنا كمان بحب الحكي عن الماضي



GMT 14:59 2024 الثلاثاء ,03 أيلول / سبتمبر

مشاهد مُستَفِزَّة.. “راكبينكم راكبينكم..”!

GMT 06:36 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

… لأي قائمة يسارية ديمقراطية نصوت ؟!

GMT 06:23 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

ماذا قال يمامة؟

GMT 06:16 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

مشكلة إصلاح التعليم

GMT 07:57 2024 الأحد ,21 تموز / يوليو

رصاصة النجاة

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 17:30 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

ميرهان حسين تكشف مفاجأة عن أعمالها المقبلة
  مصر اليوم - ميرهان حسين تكشف مفاجأة عن أعمالها المقبلة

GMT 10:52 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

انطلاق الدورة الثانية من مهرجان الشارقة للسيارات القديمة
  مصر اليوم - انطلاق الدورة الثانية من مهرجان الشارقة للسيارات القديمة

GMT 16:28 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

نائبة الرئيس الفلبيني تتفق مع قاتل مأجور لاغتياله وزوجته
  مصر اليوم - نائبة الرئيس الفلبيني تتفق مع قاتل مأجور لاغتياله وزوجته

GMT 10:38 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

واتساب يتيح تحويل الرسائل الصوتية إلى نصوص تشمل العربية
  مصر اليوم - واتساب يتيح تحويل الرسائل الصوتية إلى نصوص تشمل العربية

GMT 01:58 2021 الأربعاء ,01 أيلول / سبتمبر

البورصة المصرية تربح 31.4 مليار جنيه خلال شهر أغسطس

GMT 23:21 2020 الأربعاء ,26 آب / أغسطس

بورصة بيروت تغلق على تحسّن بنسبة 0.37%

GMT 13:08 2020 الإثنين ,24 شباط / فبراير

7 قواعد للسعادة على طريقة زينة تعرف عليهم

GMT 01:27 2018 الإثنين ,26 شباط / فبراير

باحثون يؤكدون تقلص عيون العناكب الذكور بنسبة 25%

GMT 15:46 2018 الأربعاء ,07 شباط / فبراير

كارل هاينز رومينيجه يشيد بسياسة هاينكس

GMT 12:17 2018 الجمعة ,02 شباط / فبراير

Mikyajy تطلق أحمر شفاه لعاشقات الموضة والتفرد

GMT 16:48 2018 الخميس ,25 كانون الثاني / يناير

المقاصة يسعى لاستعادة الانتصارات أمام الانتاج

GMT 14:39 2018 الإثنين ,22 كانون الثاني / يناير

"ثقافة أبوقرقاص" تنظم فعاليات في قرية الكرم وقصر الإبداع

GMT 01:22 2018 الإثنين ,01 كانون الثاني / يناير

العسيلي والليثي يطرحان أغنيتهما الجديدة "خاينة"

GMT 19:11 2015 الإثنين ,12 تشرين الأول / أكتوبر

مركز "محمود مختار" يستضيف معرض الفنان وليد ياسين

GMT 03:33 2017 الخميس ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

دار VIDA للمجوهرات تطرح مجموعة جديدة لامرأة الأحلام
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon