بقلم - جميل مطر
هدأت السيارة سرعتها بأمر الإشارة الصفراء لتتوقف مع غيرها من السيارات المتدفقة من ميدان الدقى متوجهة إلى جامعة القاهرة أو إلى الجيزة. هنا عند هذا المفترق من طرق الضاحية كان مكان عملى. أتوجه إليه فى الصباح الباكر أنا وطفل آخر، كلانا يمسك ببقايا فوطة صفراء رطبة يمسح بها زجاج السيارات، وبقايا فوطة أخرى أقل رطوبة لتلميع ما اتسخ بسببنا. لم يسمح لنا المعلم بهذه الوظيفة إلا بعد أن بلغنا من الطول ما يسمح لأذرعتنا القصيرة وبعد الوقوف على أطراف أصابعنا بالوصول إلى مساحة مناسبة من زجاج السيارات. على كل حال اعتبرنا هذا التكليف ترقية لنا بعد سنة أو أكثر من عمل شاق حين كنا نسرح منذ الفجر فى الشوارع نستجدى المارة ونعود عند اقتراب الليل ومعنا مخبأة فى أركان وثنايا أجسادنا الهزيلة «غلة» اليوم. نعود لنجد فى انتظارنا على باب «العشة» عند سفح الجبل يد المعلم الخشنة والقذرة يمدها ليبحث بها فى أنحاء الجسد المنهك والمستسلم عن بغيته من القروش. لا غرض أو رغبة فى نفوسنا سوى النوم، حتى الطعام البسيط الذى كان ينتظرنا كنا نتناوله كتكليف وأمر يجب أن ينفذ. لا يحق أن نعترض أو نطلب، له وحده حق القرار وله عيون تراقبنا خلال النهار والليل؛ بالنهار تبلغه عن حماستنا وإهمالنا وإهدار قرش أو أكثر على رغيف خبز نشتريه من الفرن القريب من موقعنا ونقسمه علينا، وتبلغه بالليل عن كل اختلاط يحدث بين صبيانه وبناته أفراد كتيبته المقيمين والمقيمات فى «العشة».
• • •
تدربت خلال هذه المهمة على فهم شخصيات الأغراب، أقصد الزبائن الذين نتعامل معهم فى الشارع. بعضهم صاروا من الزبائن الدائمين ومنهم أساتذة فى الجامعة وطلاب أثرياء يملكون سيارات، وبالمناسبة كان هذا الصنف الأقل شحًا فى التصدق علينا. كنا وزميلى نتسابق على زجاج سياراتهم ونتبادل معهم حديثًا فى الغالب مبتورًا بسبب تدخل عسكرى المرور، أو أبواق الاحتجاج من سيارات الصف الثانى، أو تفلت الزبائن من شبكات «الزن» والإلحاح التى تفننا فى نسجها. أظن أننى صرت خبيرة فى قراءة العيون التى كانت تلاحقنا؛ إما بأصناف شتى من المبالاة والفضول، وإما بالقرف من قذارتنا، وإما بالإشفاق على حالتنا. عيون أخرى كانت تتهرب حرجًا أو تأسفًا من لقاء نظراتنا المتوسلة. أعترف بأننى ارتكبت أكثر من مرة ما كان المعلم يصنفه جرمًا يستحق أشد العقاب، كنت إذا تكرر مرور سيدة أو طالبة رحيمة الصفات أسارع الركض نحوها لا لشىء سوى الرغبة فى تبادل تحية العرفان أو الشوق والحديث عن الأحوال. كان محقًا هذا الرجل الشرس، ففى إحدى هذه المرات طلبت منى زبونة «صديقة» أن ألحق بسيارتها عند انحناء الطريق على سور كلية الفنون. بالفعل وبدون تردد تركت موقع عملى المزدحم ساعتها بالسيارات المتوقفة دائمًا تنفيّذا لأوامر الشرطى الحنون علينا غالبًا، وركضت نحو سيارتها التى التزمت جانب الرصيف ثم توقفت فى انتظارى. خلال ركضى لمحت نظرة على وجه الشرطى تحمل معنى التأنيب أو التحذير أو كلاهما معًا. ابتسمت للشرطى ابتسامة الواثقة بنفسها وتابعت ركضى نحو السيارة وقد انفتح أحد أبوابها. تجاهلت الباب المفتوح وتوجهت مباشرة ناحية الباب الملاصق لمقعد القيادة. هناك انتظرت نزول الزجاج وقد أُنزل بالفعل بعد قليل. عندئذ نطقت بكلمات لم أتعود عليها. قلت «صباح الخير يا ست هانم». ردت بتحية مناسبة ثم قالت إنها تريد أن أجد الوقت الكافى لتبادل حديث مهم بيننا. لم أنطق بحرف، وأظن أنها قرأت فى نظرتى أشياء كثيرة. راحت تطمئننى. طرحت شروطًا مثل أن يجرى هذا الحديث فى موقع أبعد قليلا، وفى وقت غير أوقات الذروة، وفى سيارة محركها ساكن، وأن لا تأتى وفى صحبتها شخص آخر. اتفقنا.
• • •
وقع اللقاء وبالفعل التزمت الشروط جميعًا. افتتحت الحديث بالقول أن لديها عرضا أو فكرة تريد طرحها، ولكنها لن تطرحها حتى تسمع منى حكاية حياتى كاملة وبالصراحة المطلقة، وأن أبدأ هذه الحكاية بالإجابة عن سؤال محدد ومهم. سألت عن الأشخاص فى حياتى الذين أحبهم ويحبوننى. أجبت فورًا بسؤال يقابل سؤالها، سألتها «إيه هوه الحب يا هانم؟!، عشت أسمع عنه ولكنى حتى هذه اللحظة لم يحدث أننى تعرفت عليه، أو عرفنى به أحد، أو شعرت به. سيدتى أنا لا أعلم شيئًا عن مجيئى إلى هذه الدنيا. ولدتنى امرأة فى مكان ما. لا أحد دلنى عليه أو عليها. لا أحد يذكر أمى. قيل لى أن الحب يبدأ مع الأم عند الرضاعة، قلت لا أذكر أننى رضعت، ولكن أيضًا لم أسمع من أحد أنه رآنى أرضع أو أن امرأة بعينها تولت مهمة إرضاعى. خلاصة الأمر يا هانم أنه فى حياتى لم توجد امرأة أبادلها أية مشاعر ومنها ما تطلقون عليه اسم الحب، ولم يوجد أخوة وأخوات.
ما أذكره جيدًا حسب ما قيل لى أن عصابة اختطفتنى وأنا طفلة وقامت بتربيتى وتنمية مواهبى لأصير وأنا فى الرابعة من عمرى فتاة تجيد فن البهلونات. باعتنى العصابة مع بنات وصبيان آخرين لفرقة تؤدى أعمال السيرك وتجوب القرى والنجوع. بالنهار كنا نتدرب ثم نمارس ألعاب السيرك أمام القرويين مقابل شرائح أنواع شتى من الفطير والخبز والجبن القديم وقروش معدودة، كانت الفرقة تعتمد على عملاء فى الريف يبلغونها بمواعيد عودة الحجاج والأفراح ومناسبات طهور الصبيان وختان البنات، ثم تجرى مفاوضات مباشرة مع أصحاب المناسبة وبعد الاتفاق تجرى مفاوضات أخرى مع الغوازى وفرق الموسيقى والغناء الشعبى المتجولة مثل فرقتنا بهدف التنسيق من أجل تقديم عمل متكامل لمناسبة معتبرة.
ذات يوم بعد عمل فى السيرك والأرياف استمر سنوات لا أذكر عددها استدعانى صاحب السيرك ليبلغنى عن أمر حان حسب رأيه وقت اتخاذ قرار بشأنه. قال إنه يتحدث معى وهو فى موقع الأب الذى حرمت منه، وأضاف أن وجودى فى السيرك أصبح محل نظر لمصلحتى ومصلحة السيرك. بدا له ولآخرين فى السيرك أن تطورات جسدى فى السنة الأخيرة صارت تلفت نظر المتفرجين والعاملين فى السيرك بشكل يهدد سلامتى وانضباط العمل فى فرقة كثيرة التنقل وتضم رجالا وشبانًا من كافة الأعمار. سألته إلى أين أذهب وهو يعلم كما أعلم أن لا أحد يهتم بى، أجاب بأنه سوف يأخذنى معه إلى القاهرة فهناك من يعرفه جيدًا ويعرف عنه أنه يدرب مثيلاتى من البنات ويقدم لهن المأوى والمأكل. أنهى حديثه بالقول إنه مع هذا الرجل يستطيع أن يطمئن على حياتى ومستقبلى. هكذا صرت بالشارع أعمل مع مراهقين ومراهقات فى مثل عمرى لا أتفوق عليهم إلا فى مهارة القفز من حافلات وقطارات وسيارات تتحرك، وكفاءة فى تسلق الحبال والمشى عليها، وقدرة على الصمود فى الجوع لفترة أطول. هذه حكايتى، هل عندك مشروع إضافة لها. أرجو أن يكون متناسبًا مع خبراتى وتجاربى». ضحكنا معًا قبل أن تخبرنى بالأمر الذى استدعتنى من أجل إبلاغى به.
• • •
قالت، تعالى معى. سوف آخذك إلى مدرسة تقيمين فيها تتعلمين حرفة والكتابة والقراءة وأقرب شىء ممكن إلى الحب العائلى الذى حرمك منه المجتمع. سوف تقيمين فى المدرسة وتأكلين ثلاث وجبات وهناك سوف يغسلون لك ملابسك وتنامين مع بنات، فالمدرسة لا تأوى إلا البنات. لن تقابلى أشخاص من نوع المعلّم الذى يأويك مقابل عمل عشرين ساعة وخدمات أخرى ستعفيك المدرسة من زلاتها وأضرارها الجسدية والنفسية. سوف تجدين فى انتظارك طبيبًا يكشف عليك ويتعرف هو والمدرسة على أمراض احتلت جسدك أو أعضاء فيه، ويتولى والممرضات علاجك منها. لن تندمى يا فتاتى إذا وافقت على الذهاب معى إلى هذه المدرسة أو مأواك الجديد فى الوقت الذى تختارينه.
• • •
شكرتها. مدت ذراعيها لتحتضنى قبل أن أنزل من السيارة. نزلت. جلست على جانب من رصيف بعيد عن موقع شرطى المرور وعن زميلى الذى يعمل فى الناحية المقابلة لناحيتى فى الشارع. رحت أفكر وأفكر وأفكر. عند الليل عدت وزميلى إلى العشة عند الجبل. ذهبت مباشرة إلى حيث جلس المعلّم يسحب أنفاسًا من الشيشة ويعيد إطلاقها دخانًا كثيفًا كريه الرائحة. جلست أمامه بعد استئذانه طبعًا لأطلب منه تكليفى بموقع آخر بعيد كل البعد عن موقع الأورمان وكل مواقع الدقى والجيزة. لم يسأل عن السبب ولم أتطوع به.