بقلم - جميل مطر
«عندما تكتب يا صديقى عن الصين لا تنسى حقيقة أن أنفك طويل. بمعنى آخر لا تحاول الإلمام بكل شىء عن أى شىء، فلم يخلق بعد أجنبى، وأقصد إنسانا صاحب أنف طويل، أى إنسان أجنبى مثلك، استطاع الإلمام بكل شىء عن أى شىء حدث أو يحدث أمامه فى الصين». نصيحة تلقيتها من مواطن صينى قابلته فى هونج كونج فى أول رحلة عمل لى فى الصين، أى قبل عقود عديدة. لم تكن نصيحة مثبطة للهمة بل على العكس كانت، وبخاصة بعد أن ثبت لى صدقها، دافعا وراء تخصيص وقت ثمين للتعرف على الصين من خارجها بعد العام الذى قضيته فيها فى رحلتى الأولى.
قضيت معظم أيام الأسبوع الماضى أتابع ما أتيح لنا أن نتابع، أى لغير المشاركين فى أعماله وغير الذين اشتغلوا شهورا فى التحضير له؛ من هؤلاء المكلفون بمهمة تصفيته من أعضاء فى الحزب غير مرضى عنهم، وغير العدد المحدود الذى اشترك فى إعداد خطاب الأمين العام للحزب. أما الوظيفة الثانية للأمين العام هى رئيس اللجنة المركزية للحزب والثالثة رئيس اللجنة العسكرية والرابعة رئيس المكتب السياسى، أى رئيس المجموعة الصغيرة جدا المكلفة رمزيا ومؤسسيا قيادة الحزب بشكل جماعى، والخامسة رئيس اللجنة الدائمة ومعظم أعضائها يطلق عليهم الخالدون، وهو التعبير الذى لا يستحق شرف الانتماء إليه إلا من قضى فى قيادات الحزب والدولة أغلب سنوات عمره ونجح فى أن يحظى برضاء الزعيم فاستمر عضوا بالمكتب السياسى حتى كاد يبلغ التسعين، والسادسة رئيس الدولة وهو الدور الشرفى لشخص الزعيم. منظرهم وهم السابعة أعضاء اللجنة الدائمة مجتمعين فى صف واحد على المسرح المطل على القاعة الكبرى للاحتفالات فى ميدان تيان آن مِن أى ميدان السلام الأبدى، منظر يؤكد حقيقة «عبادة» الصينيين لأسلافهم.
من الخالدين مثلا الرئيس السابق «هو جينتاو» الذى وصل إلى هذا العمر، وكاد يقع، أو لعله وقع بالفعل، فى خطأ لا يغتفر. قيل لى إنه حاول من مكانه الملاصق لمقعد الرئيس الإيحاء بشكل من الأشكال لألفين وثلاثمائة نائب فى المؤتمر أنه يريد أن يعترض أو يحتج فهو الرئيس السابق الذى شارك فى التأسيس لقاعدة ألا يحتفظ رئيس الدولة لنفسه بمنصبه لولاية بعد الولاية الثانية. فكان أن تولى مسئول فى التنظيم إخراجه أمام مئات الكاميرات الصينية والأجنبية التى احتشدت لتصور اليوم النهائى للمؤتمر العشرين للحزب الشيوعى الصينى. المثير فى المشهد أن الرجل ولاعتبار مكانته كرئيس سابق للدولة وأمين عام سابق للحزب ومحل ثقة الجميع جاء مكانه إلى جانب مقعد الرئيس شى. كثيرون فيما أتصور سوف ينالهم عقابا بدرجة أو أخرى. على كل حال يجب التصريح لمن لا يعرفون أسلوب التحضير لمثل هذه المناسبات أن الأمين العام للحزب يشرف بنفسه ويختار ويقرر من يجلس بجانبه ومن يشترك معه فى المكتب السياسى وعددهم الكلى 25 عضوا. خطأ أظن لن تتجاهله سرديات الحزب فى المستقبل لما عرف عن شى جينبنج من فراسة فى معرفة الرجال وتقييمهم.
خلاصة الأمر هى أن خطأ واحدا دفع لاكتشاف حقيقة مرة للغاية وهى أن للرئيس شى جنبينج معارضين فى الحزب بل وفى أعلى مراتبه، وأنه لا يوجد إجماع فى الحزب على تأييد السياسات المقررة. أغلب الظن أن أحدا فى الحزب سوف يعلن خلال الأيام القليلة القادمة أن الرئيس السابق هو جينتاو مريضا ولم يكن قادرا على استكمال أعمال الجلسة النهائية للمؤتمر فجرى إخراجه من القاعة وبقى مقعده خاليا. وإن تخيلت أن المقعد لن يترك شاغرا طوال الجلسة وربما استطاعوا نزعه من موقعه إن كان مثبتا فيه بحيث لا يظل غياب صاحبه مثيرا للتساؤل والفضول بينما الكاميرات مسلطة بقصد على الرئيس وهو يلقى بخطاب طال انتظاره والمسلطة بغير قصد على المقعد الخالى لغير سبب معلن.
انتهى المؤتمر قبل دقائق من ابتداء كتابة مقالى هذا، لذلك لم يكن أمامى من بد إلا أن أغامر فأكتب تعليقات سريعة تبقى قابلة للنقاش والتعديل إذا ما ظهر لى وللقارئ ما يستحق المناقشة والتصحيح. كان بين شواغلى العديدة خلال انعقاد المؤتمر التفكير فى الآثار التى خلفتها الحرب الدائرة بين روسيا ودول الغرب ومنها أوكرانيا على أفكار وخطط قادة الحزب الشيوعى الصينى وعلى سلوكهم السياسى. يتصدر فى الأهمية من التعليقات حول هذه الآثار ما يلى بإيجاز أتمنى ألا يكون مخلا.
●●●
كشفت الحرب لقادة الصين عن مزايا يتمتع بها الغرب طالما توارت فى التحليلات الرسمية للقادة ضمن دوائرهم الداخلية لأسباب كثيرة. كانت الحرب فرصة نادرة لتتأكد الصين مما تدبره لها أمريكا. صحيح أن نوايا العداء الأمريكى الصارخ للصين أعلنت عن نفسها فى عهد الرئيس دونالد ترامب قبل أن تستأنف أمريكا عداءها العنيف لروسيا فى عهد جوزيف بايدين. وقتها، أى فى عهد ترامب تصورت الصين أنها الهدف الأول لحملة عداء وربما حرب من نوع أو آخر تنوى أمريكا إشعالها لوقف صعود الصين نحو القمة. تغيرت أولوية الأهداف الأمريكية حين راحت واشنطن تلقى بعنفوان حلف الناتو ضد روسيا. أما السبب فربما يكون فى أن أوكرانيا صارت جاهزة بالسلاح والتدريب لتلعب دور كبش الفداء فى صراع فوق القمة يجرى التخطيط له منذ وقت غير قصير ولا يتحمل التأجيل لأن روسيا لن تنتظر وهو الأمر الذى خططت ومهدت له واشنطن.
●●●
من بين ما كشفت عنه حرب روسيا وأوكرانيا حاجة الصين العاجلة والضرورية إلى نوعيات جديدة من السلاح والتدريب. صار مؤكدا للقيادة الصينية أن أداء الغرب عموما وأمريكا بخاصة فى الحرب الدائرة ضد روسيا فى أوكرانيا كان متميزا، حتى وإن كان فى معظم الأحيان أداءً غير مباشر. لذلك لم أتفاجأ وأنا أستمع إلى تسريبات عن نية القيادة العسكرية الصينية تجنيد ضباط غربيين متقاعدين لتدريب ضباط وجنود جيش التحرير الصينى.
●●●
القيادة الصينية كغيرها من القيادات الوطنية فى العالم النامى كانت تعلم عن اعتراض شعوب العالم النامى على سياسات وتصرفات الدول الغربية. هذه المرة تأكد العالم. تأكد ولكن تأكدت أيضا وفى الوقت نفسه حقيقة أن هذه الشعوب وإن اعترضت أو احتجت على تصرفات الغرب فإنها غير كارهة له أو راغبة فى مقاطعته حتى إن دعتها لذلك ظروف العلاقات والصراعات بين دول القمة. أدركت القيادة الصينية هذا الأمر وتأكدت منه مرات ومرات. فليس بين شعوب العالم النامى من يحق له كره الغرب مثلما يحق لشعب الصين، ومع ذلك نجحت البراجماتية التى بثها قادة الانفتاح مغلفة بغلاف أيديولوجى (ماركسى لينينى ماوى) فى تهدئة مشاعر الكره والانتقام لدى الشعب الصينى مستبدلة روح الانتقام بغريزة المنافسة، الغريزة الصينية بامتياز. كان واضحا لى وأنا أقرأ مؤتمر الحزب الشيوعى الصينى فى دورته العشرين أن حرب الغرب ضد روسيا لم تضف إلى مشاعر الاعتراض الصينى على الغرب كرها أو عنفا أشد. ما حدث فى رأيى هو وعى أعمق لدى القيادة الصينية بخطورة ما يدبر للصين فى واشنطن وعواصم أخرى فى الغرب، ودراية أكبر بميل العالم النامى عموما إلى جانب القوى المناهضة لسياسات الغرب فى حال نشوب صراعات على مستوى الكون رغم الحاجة الماسة لدى دول هذا العالم لمعونات الغرب وقواته المسلحة لحمايتها من أنشطة التطرف العسكرى. فضلا عن ما سبق لا أظن أن أحدا فى الصين ينكر العائد الإيجابى الذى لا تزال تتمتع به معظم دول الغرب نتيجة توافر رصيد لا بأس به من القوى الرخوة التى تفتقر إلى مثلها كل من الصين وروسيا.
●●●
لا أبالغ وأنا أكرر اعتقادى أن أوروبا ما تزال، على ضعفها المتصاعد، تحتفظ بمركزية دورها فى العلاقات الدولية عموما وفى العلاقات بين دول القمة بخاصة. أظن أن القيادة الصينية تنبهت من جديدة لخطورة هذا الدور. بمعنى آخر أثبتت أحداث الحرب الناشبة بين روسيا والغرب ربما للمرة المائة أن لا قيادة للعالم ممكنة بدون أن تعتمد على قاعدة اسمها أوروبا. قد تستمر الصين فى صعودها المريح نسبيا وبتكلفة غير باهظة نحو نصيب لها فى القمة حتى إنها يمكن أن تكون مهيمنة (وهى كلمة مذمومة فى قاموس الصين السياسى) فى قارة آسيا على اتساعها، ولكنها لن تحقق المكانة المرجوة على القمة ما لم «تهيمن» على أوروبا. روسيا تحفظ هذا الدرس عن ظهر قلب والولايات المتحدة بطبيعة الحال. هذه المركزية الأوروبية تظل حيوية فى السلم كما فى الحرب، ولعلها من أهم ما أكدت عليه الحرب بين روسيا والغرب فى أوكرانيا.
سلما أو حربا لن تحقق الصين حلم الرئيس شى فى إقامة نظام عالمى جديد بقواعد جديدة اعتمادا على مجموعة شنجهاى أو أى مجموعات إقليمية أخرى. لا بد من أوروبا حليفا أو نصيرا ليتحقق الحلم عاجلا أم آجلا.