بقلم - جميل مطر
جرت مع زميلة عزيزة مناقشة استغرقت عدة جلسات وبيننا هواتفنا وحواسيب نستعين بها إن خفتت الذاكرة أو بهتت الصور وتآكلت الحروف. نتج عن المناقشة استفسار تحت عنوان الشغل الشاغل للرئيس الصينى خلال مرحلة ولايته الثالثة.
هل يشغله بالدرجة الأولى الوضع الاقتصادى الداخلى، أم الظروف التى تسمح أو تلح بعودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، أم تشغله احتمالات استمرار أو اقتراب نهاية عهد الرئيس فلاديمير بوتين فى الكرملين، أم تشغله الحاجة أو الضرورة إلى شن غزو لاستعادة تايوان إلى مكانها فى الوطن، أم يشغله تسارع أو تباطؤ خطوات انحدار أمريكا كقطب مهيمن ومصدر تهديد وفى الوقت نفسه كحاجز صد لأمواج فوضى عالمية لا تحتمل؟
امتد بنا الوقت ونحن نحاول حصر الموضوعات والقضايا الداخلية والخارجية التى يمكن أن تكون بين أولويات اهتمام الرئيس الصينى لنكتشف أنها تكاد تبدو بالنسبة لكلينا، لا نهائية. نناقش الواحد منها لننتهى أنه هو وليس غيره الشغل الشاغل للرئيس فهو الذى يجب أن يسبق غيره من القضايا وبخاصة إذا كان بين مبرراتنا أنه القضية التى ترتبط نهايتها ارتباطا كليا وحتميا بحرب تستعمل فيها كل أطرافها أسلحة وأدوات الدمار الشامل. بمعنى آخر، هى القضية التى يمكن أن يجرى بفضلها القضاء على البشرية، كلها أو أغلبها، أو هى القضية التى يؤدى الفشل فيها إلى انفراط الصين، أو هو الوباء، كالكوفيد مثلا، الذى إن خابت معالجته فى الصين لقضى عليها كدولة عظمى ولتعود تخضع لمجموعات متنافرة من أمراء الحرب تتقاتل فيما بينها تنهب ما فى الخزائن وتشن حروبا ضد دويلات وشعوب مجاورة كانت فى أوقات السلم الإمبراطورى تجرى فى فلك الصين، الدولة القائد فى الإقليم ومركز الكون..
• • •
لم نيئس. عدت إلى أوراقى القديمة وأوراق أحدث. عدنا معا إلى مقولات الفلسفة والتراث الأقدم فى التاريخ الصينى. هنا أصرح بأن الفضل فى توخى الدقة فى توجهات النقاش يعود إلى الرئيس شى نفسه. ففى خطاب أو تصريح له قبل عامين أو أقل قليلا وجه رسالة إلى الشعب الصينى يدعوه فيها إلى دراسة، والتمعن فى، ظاهرة «التداوير» وأقصد بها صعود الإمبراطوريات الصينية وانحدارها عبر دوائر تكاد تكون متصلة ومتواصلة. تصعد معتمدة على دائرة الانحدار التى سبقتها وأخرى تنحدر ثم تنفرط فى دوائر بلا عدد. بذلك عبر الرئيس الصينى عن جوهر ما يشغل بال كثير من زعماء العالم، وبخاصة هؤلاء الذين نشأوا فى بيوت علم وسياسة وتراث وأصول حكم أو درسوا بعض علوم التاريخ السياسى التى اهتمت بتطور الحياة السياسية فى بلادهم. بعض هؤلاء الزعماء انشغل فعلا بتفاصيل التاريخ، اختار منها ما يناسب تطلعاته وخلاصاته الشخصية فخرج منها بقراءة ذاتية وجعل هذه القراءة الأساس النظرى لمجمل فكره وعقيدته فى الحكم. من هذه القراءات استطاع المؤرخون فهم وتحليل تاريخ الإمبراطوريات، وفى تاريخنا السياسى الإسلامى المسجل نماذج مبهرة على شروط وظروف صعود الدولة الإسلامية وانحدارها ثم انهيارها.
الرئيس شى ليس استثناء عن هذه القاعدة، قاعدة وعى القادة الصينيين بفلسفة «التداور» فى الفكر والتطبيق. الاختلاف الوحيد، ولعله الأكبر والأهم باعتبار المناقشة التى نحن، صديقتى وأنا، بصددها اليوم، يتجلى واضحا فى أن الرئيس شى استبدل الكيان الإمبراطورى بالحزب الشيوعى الصينى. هنا يطل علينا بالتأكيد من عقيدة الرئيس الصينى مزيج فريد من بعض فكر الرئيس الراحل ماو تسى تونج وبعض أفكار فلاسفة الصين القدامى ومنهم بالذات الفيلسوف سون تسو وبعض خبرة وتجارب الرئيس شى نفسه خلال ممارسته العمل صغيرا ثم كبيرا فى مستويات متباينة من مراتب الحزب والعمل كبيرا نوعا ما فى إدارة ملفات سياسية محلية مختلطا مع الشعب.
• • •
نعرف الآن عن الرئيس ماو تسى تونج أنه لم يعتبر نفسه، كما كان يفعل أباطرة الرومان وآخرون، إلها أو سليل الآلهة. لكنه بالتأكيد حاول غرس فكرة، ثم صارت عقيدة، بأن الحزب الشيوعى الصينى يستحق أن يحتل مكانة الآلهة فى سلم عقائد الجمهورية الصينية. جدير بالذكر أن سلفيه فى قيادة مرحلة ما بعد الأسرة الإمبراطورية الأخيرة لم يحاولا إحلال الولاء للتحالف الثورى الاتحادى، حزب الرئيس صن يات صن، ثم للكومينتانج، حزب تشيانج كاى شيك، محل الولاء للثورة خاصة وأن المستعمر البريطانى كان قد نجح فى تدمير أى نوع من مشاعر الولاء لأى سلطة صينية باستخدام بوارجه الحربية وبالأفيون. أدرك الزعيم ماو مبكرا أن لا مستقبل فى الصين لحكم قوى ولا تنمية اقتصادية معتبرة ولا استقرار سياسى إلا فى وجود حزب كبير منبث فى جميع القرى وأحياء المدن ومنبعث منها، يحمى مصالحها وفى المقابل يحميه الشعب ويصد عنه الأذى.
كتب سون تسو عما صار يعرف فى علوم السياسة بالقوة القومية الشاملة وهى التى عبر عنها الفيلسوف الصينى أحسن تعبير حين كتب يقول «من يعرف نفسه ويعرف الآخرين سوف يكون المنتصر فى كل معركة، من لا يعرف نفسه ولا يعرف الآخرين سوف يكون المنهزم فى كل معركة». يذهب فكر سون تسو ومؤرخون وفلاسفة هذه المرحلة الإمبراطورية إلى أن الإعداد لمعركة مصيره الفشل لو لم يحدث داخل سياق حقيقى وواقعى. يضرب المثل بدولة من الدول لديها فرقة راقصات ومطربين ومطربات تحميها بارجة حربية وعلى متنها بعض الجنود، ودولة أخرى تنفق عديد إمكاناتها المالية على أسلحة وجيوش جرارة، الدولة الأولى سوف تنتصر على الدولة الثانية فى أول مواجهة عسكرية بينهما. بمعنى آخر، تنتصر الدولة صاحبة القوة الناعمة الأكبر والمسلحة تسليحا حديثا والمؤمنة معيشيا باقتصاد قوى والمحصنة اجتماعيا ضد الفوضى واللامساواة والمنضوية تحت قيادة حزب يضمن بصلاحه وشعبيته استمرار ولائه للشعب وولاء الشعب له.
لم يغب عن تفكير الرئيس شى حقيقة أو وهم أن الحزب الشيوعى الصينى ربما حمل معه فيروس «الدوراتية» بمعنى أنه مثل نظام الحكم الإمبراطورى الصينى يخضع لظاهرة دورات الصعود والانحدار. فى خطاب له أفصح عن رؤية تخصه وتتعلق بالعام 2049 العام الذى ينتظر أن يشهد نهاية ظاهرة الصعود والانحدار، عام اكتمال نضوج الحزب الشيوعى الصينى وبالتالى بلوغ الصين مكانة الدولة العظمى. بمعنى آخر، يظل الحزب معرضا إلى أن يحين هذا التاريخ لجولات صعود وانحدار بكل ما يعنيه هذا التراوح من مشكلات. لذلك لا بد من القفز فوق هذه النمطية التاريخية التى تمسك بتلابيب الاستقرار الصينى. لا بد إن أريد للصين أن توالى نهوضها النموذجى أن يبقى الشعب متيقظا لمنع انطباق ظاهرة التداور الحضارى على الحزب الشيوعى الصينى والحيلولة دون الوقوع فى أخطاء تعطل تحقق رؤية الرئيس شى.
جدير بالذكر أن الرئيس ماو تسى تونج كان يحذر من عدم الانتباه إلى ما يمكن أن يحدث للحزب خلال فترات الهدوء والاستقرار. ففى تلك الفترات الهادئة سياسيا يمكن للفساد أن ينتشر فى مختلف أجهزة الحزب. يمكن أيضا أن يختل التوازن فى قوى مؤسسات الدولة والحزب فيشتد مثلا ساعد القوة فى بيروقراطية الدولة على حساب ساعد القوة فى هياكل وقيادة الحزب، فى هذه الحالة يتعين أن يتدخل القائد لإشعال ثورة تعيد إلى الحزب هيمنته وقيادته. حدث فعلا أن تدخل الرئيس ماو أكثر من مرة تحت عنوان الثورة الدائمة، ومن هذه المرات أطلق الثورة الثقافية لتحقيق هذا الغرض. أما الرئيس الحالى فيلجأ إليها دوريا وإن بشكل مختلف مع كل انعقاد للمؤتمر القومى العام للحزب.