بقلم - جميل مطر
اقتربت الحافلة من إحدى محطاتها. هدأت سرعتها بالتدريج حتى توقفت. مسح صاحبنا زجاج النافذة التى جلس إلى جوارها على أمل أن تتحسن الرؤية فيتمكن من قراءة اسم المحطة. تملكه من جديد الشك فى أن الغموض عاد يلاحقه. تحدث بالأمس إلى طبيبه، وهو فى الوقت نفسه، صديق لسنوات. سأله إن كان الغموض المحيط بأشيائه، كل أشيائه، نوعا من مرض أصاب صاحبها. لم يفهم الطبيب. صاحبنا يشكو من صعوبات فى الفهم، جديدة عليه. لاحظ أنه يحتاج وقتا أطول قليلا من المعتاد لفهم تعليق أو إجابة أو سؤال، وللحاق بخطاب لسياسى أو لمحاضر، ولاستيعاب إشادة أو مديح من زميل أو من مشارك مستمع. لاحظ أيضا أن الرؤية لم تعد بنفس صفائها. يرى الناس والأشياء مختلفة قليلا عن طبيعتها. لا يراها واضحة كما رآها أول مرة. السمع سليم والبصر أيضا، هذا ما أكده الأطباء المتخصصون.
•••
عاد يمسح النافذة، يزيل بكف يده ما خلَّفه ضباب الصباح من ستائر نسجتها قطرات ماء لا تراها العين المجردة. استطاع أن يرى للحظة مقدمة طابور من النساء تستعد لركوب الحافلة من بابها الأمامى. انتهت اللحظة فغاب بقية الطابور ولكن عادت مقدمته تظهر متدرجة، فى شكل راكبة بعد أخرى تصعد سلم الحافلة، وعند وصولها تحيى السائق بهزة رأس أو بهمسة لا تسمع أو بتلويحة يد لا تذهب بعيدا، وبعدها تدلف منسابة نحو مقعد أو آخر لم يحظ بعد أى منهما فى هذا الصباح بمتعة احتضان راكبة.
•••
الراكبة الرابعة فى ترتيب الصعود اختلفت قليلا فى أداء فروض ركوب الحافلة. صعدت مبتسمة. استبدلت تحية السائق المعتادة كهزة رأس أو همسة لا تسمع أو تلويحة يد لا تذهب بعيدا بلمسة ناعمة لكتف السائق وتحية صباح مناسبة باسمة مسبوقة بميسيو، ولا تدلف ولا تنساب كسابقاتها إلا بعد أن تتلقى من السائق ما يفيد استلامه تحيتها لهذا الصباح. وبعد أداء هذه الفروض الصباحية تتجه نحو ما يشبه الأريكة، من هناك تستطيع مشاهدة كل ما يجرى فى الحافلة بوضوح لا تنقص منه موجات ضباب. فضباب الصباح لا ينفذ إلى داخل الحافلة. نعرف أيضا أن من شيمه، شيم الضباب أقصد، احترام خصوصيات الأماكن المغلقة.
•••
رآها صاحبنا عن بعد وهى تصعد سلم الحافلة. سمعها تلقى بتحية الصباح إلى سائق الحافلة مصحوبة بلمسة لكتفه وهو يرد بأحلى منها. ثم رآها فى أبهى صورة وهى تقف وسط الحافلة ترنو ببصرها فى كل الاتجاهات كأنها تبحث أو تتمنى أو تنتظر. كاد لحظتها يقف وينادى عليها باسم يعرفه بل ويحفظه عن ظهر قلب لـتأتى ناحيته فتحتضنه كما تعودت أن تفعل ثم تجلس إلى جانبه. تذكر مرضه المزعوم فتردد ولم ينادِ. عادت إليه رؤى عنهما معا يكسوها بعض الغموض ومصحوبة بذكريات أحلى وأجمل من كل ما احتفظ به على امتداد شبابه وما بعده. استقرت عيناه عليها. نسى أو تناسى وجود ركاب غيرهما فى الحافلة. غابت عنه حقيقة أن مرآة السائق تعكس له كل صغيرة وكبيرة تطرأ داخل حافلته. غابت عنه أيضا ملاحظة أن سيدتنا من موقعها كانت تقرأ بكل الوضوح الممكن اتجاهات نظر السائق الذى لم يفته تعلق نظر وانتباه صاحبنا الثابت بالراكبة خفيفة الظل والروح.
•••
قال لها، ولعله صدق نفسه وهو يقول لها فى حلم يقظته، تذكرين ولا شك أيامنا التى قضيناها فى زيارة حدائق ومعارض فنون وليال قضيناها نتنقل بين مسارح ودار الأوبرا وسهرات فى منازل أصدقاء مشتركين. تذكرين ولا شك جلسات أطلقنا عليها عنوان سوق الغزل والحب وآدابهما. قضينا الساعات معا ومع محبين آخرين نقرأ شعر الحب من أقدمه وانتهاء بأحدثه ونغنى مع المغنيين أو ندندن بأغانيهم. ومن الليالى تذكرين بكل تأكيد ليلتنا فى الجناح برقم أربعة وأربعين. تذكرين قصيدة الشعر عن تلك الليلة نظمتيها على الفجر لتلقيها ونحن نتناول إفطارنا فى الفيراندا المطلة على البحيرة. إن نسيت فلن أنسى قطرات الدموع تنساب من عينيك على خديك وكأنها راقصات باليه يتهادين على وقع كلمات قصيدتك. كانت أسعد ليالينا وكنت تتعمدين فى أيام كثيرة حلت بعدها تذكيرى بها خاصة بعد أن وضعت لقصيدتك لحنا فصار لليلتنا أغنية.
•••
استمر فى خطابه متخيلا أنها تسمعه. «عشنا بعد تلك الليلة سنوات نجتمع فى ليلة ذكراها. باعدت بين أجسامنا تقلبات الظروف وحيل الزمان. أذكر ذات ذكرى كنت أنت فى أقصى بلاد الشرق تطلين من نافذتك على مياه محيط شاسع وكنت أنا أطل من كوة فى طائرة على فراغ لا نهائى وظلام دامس عندما حانت لحظة الذكرى، أدرت الشريط وتركته فى أحضان أصابعى قريبا من أذنى فلا تسمعه الراكبة الشابة الجالسة إلى جواره يكاد الفضول يقتلها. راكبة فى مقتبل عمرها سافرت وقرأت وشاهدت ولم تكن قبل هذه الرحلة قابلت رجلا تقدم به العمر يتصرف مع بعض أشيائه تصرف شاب عاشق ولهان. الشريط ملتصق بأذنه تتسرب منه حروف راقصة من كلمات لم تكتمل واحدة منها ونتفة ناعمة من لحن شاء جارها أن يبقيه مع الكلمات لنفسه.
•••
الحافلة تهدئ من سرعتها وسيدتنا تستعد لمغادرتها وصاحبنا أخذته الظنون إلى حيث لا يحب. صاحبته، إن كانت حقا صاحبته، تأملت فى وجوه جميع الركاب إلا فى وجهه. وها هى تعيد الكرة وكأنها تودع رفاق ورفيقات رحلة. ابتسامتها الخالدة فى ذاكرته وفى وجدانه لم تفارق شفتيها. فتحت حقيبة يدها وأخرجت مرآة صغيرة نظرت فيها وابتسمت ابتسامة أرحب من تلك التى ودعت بها ركاب الحافلة عندما دارت بها عليهم فردا فردا إلا هو. أعادت المرأة إلى مكانها وأغلقت الحقيبة ونهضت واقفة. نعم، هذه وقفتها ممشوقة القوام بهية الطلعة قريبة حتى وهى بعيدة. مشت فى اتجاه باب النزول لم تنظر نحوه مرة واحدة بينما بعثت بتحية مناسبة للسائق عبر مرآته ومن ناحيته لم يتأخر فى رد التحية بأحسن منها. توقفت الحافلة وانفتح الباب وصاحبتنا تنزل فى هدوء ووقار، ورشاقة لا شك فيها. أما هو فاستمر يراقب ويفكر وما تزال الظنون تلهب حواسه وخياله. لا يعقل أن تكون صاحبتنا لم تتعرف عليه ولا يعقل فى الوقت نفسه أن تتجاهله. لم تنظر ناحيته، والأدق أنه لم يضبطها متلبسة بالنظر ناحيته. من منا يحكم ويقرر فى هذه المعضلة؟ هى الآن خارج الحافلة وصاحبنا كله يكاد يكون معها. لم ينزل خلفها. أليس غريبا أنها على امتداد الرحلة لم تهتم بوجوده؟ ألا تثير هذه الملاحظة الشك فى أنها عرفته وتعمدت إنكار وجوده؟ مستحيل، راح يردد الكلمة. كنت دائما المحب الوفى الذى لا ينسى ولا يهمل ولا يؤذى. أحبها بكل ما أوتى بشر من قدرة على الحب. ويحبها الآن بكل ما أوتى بشر من قدرة على رفض النسيان. أدليل هناك أكثر من استمتاعه الذى لا يكل ولا يتعب من الاستماع إلى شريط أغنيتها عن ليلة الجناح أربعة وأربعين؟
•••
عادت الحافلة تتحرك وعيناه مثبتتان على صاحبته وقد أعطت ظهرها للحافلة. مشت بنفس طريقة مشيها قبل عشرين عاما. الريح قوية فشعرها يتطاير وفستانها يتجاوب وهى لا تأبه. فجأة توقفت. فتحت حقيبة يدها وأخرجت منها شيئا. أغلقت الحقيبة. عادت تمشى وفى يدها وعلى أذنها شريط تسجيل.