بقلم - جميل مطر
تأخر إصدار وثيقة استراتيجية الأمن القومى الأمريكى عن موعدها المعتاد، وكان لهذا التأجيل صداه فى التعليقات والتحليلات. صدرت الوثيقة بينما كان اهتمامنا مشدودا إلى حدث له أهميته البالغة ألا وهو انعقاد المؤتمر العشرين للحزب الشيوعى الصينى، وبدوره ارتبطت به أحداث لا تقل أهمية مثل خطاب الرئيس شى المقرر إلقاؤه فى نهاية جلسات المؤتمر.
كان لاهتمامنا بالوثيقة ما يبرره، ليس فقط لأنها فى حد ذاتها حدث يتجدد فى مواعيد معينة، ولكن أيضا لأنها ترسم خريطة طريق توضح المسئوليات المتوقع أن تتحملها مختلف أجهزة ومؤسسات الدولة الأمريكية خلال الشهور والسنوات التالية. هذه الوثيقة تضع بشكل من الأشكال ترجيحات لمسارات أو خطط تستعد بها الدول ذات المصلحة أو الشأن للتعامل مع السياسات الأمريكية المعتمدة على هذه الوثيقة. تصورت مثلا، ويبدو أننى كنت على حق، أن دولا عربية بعينها استنفرتها الوثيقة وراحت على الفور أو بتدرج ملحوظ تستعد لمواقف تواجه بها سياسات ومواقف أمريكية جديدة أو غير مألوفة على صعيد العمل الدبلوماسى قديم العهد فى العلاقات بين أمريكا وهذه الدول العربية. بمعنى آخر شعرت دول عربية، ضمن عدد أكبر من دول أفريقية وآسيوية، أن أمريكا قررت أن تجعل سياساتها الحالية ضد الصين والاتحاد الروسى نموذجا لما يمكن أن تكون عليها سياساتها الخارجية فى المستقبل، ودرسا لكل دولة تفكر فى أن تضع نفسها عقبة أمام استمرار نظام الهيمنة الأمريكية أو تعترض عليه أو تتردد فى ممارسة الطاعة والتبعية كاملتين. تؤكد ذاكرتنا القومية أن هذا النموذج سبق استخدامه فى المنطقة العربية مرات غير قليلة، استخدم ضد مصر فى منتصف الستينيات وضد العراق عند مطلع القرن الحادى وعشرين ومستخدم الآن ضد سوريا.
●●●
تهتم الوثيقة الأمريكية بفلسفة الأمن الإقليمى لتحقيق السلم والأمن الدوليين على حساب الفكر التقليدى الذى يفضل فلسفة العمل الجماعى والعمل الثنائى. كلاهما لجأت إليه أمريكا والاتحاد السوفييتى لتحقيق طموحاتهما خلال الحرب الباردة. كانت الأحلاف الكبرى الوسيلة المفضلة لكلى القطبين لضمان أمنهما وأمن حلفائهما، بالإضافة إلى استخدامها لتوسيع مناطق نفوذهما. يبدو لنا من خلال قراءة وثيقة الاستراتيجية الجديدة أن الولايات المتحدة سوف تفضل التركيز على تشجيع الدول الحليفة أو الضغط عليها لتشكيل مجموعات إقليمية بهدف تنسيق مختلف الأنشطة الأمنية للدول الأعضاء مع الاستفادة من علاقتها العسكرية والسياسية بالقطب الأمريكى إذا احتاج الأمر. ومن جانبها تحاول روسيا بعث النشاط العسكرى فى تجمعات إقليمية من دول تقع فى فنائها الخلفى. ليس خافيا أن نجاحها لا يزال محل شك وبخاصة بعد التطورات الأخيرة فى العلاقات بين أذربيجان وأرمينيا أو بين دولتين أو أكثر من دول شمال وسط آسيا، أو بين أطراف قوقازية أخرى.
انفردت الوثيقة الأمريكية بإثارة احتمال أن تشهد العلاقات الدولية فى السنوات القادمة صعودا معتبرا فى نوع غير مألوف من القوميات فيما يطلق عليه القومية التكنولوجية. ربما كان القصد من وراء إثارة هذا الموضوع التنبيه للأهمية التى صارت تحوز عليها شركات التكنولوجيا المتقدمة وتجمعاتها مثل وادى السيليكون ورموزها البارزة مثل إيلون ماسك، وما شابهها وشابهه فى الصين. ترتبط بهذه الصناعة مواد خام ضرورية ومنتجات كأشباه الموصلات بدونها لا يتحقق التقدم المطلوب ولا الفوز فى المنافسة المتزايدة قوة ولهيبا بين الصين وآسيا من ناحية وأمريكا والغرب من ناحية أخرى. المنافسة على هذا الصعيد يمكن أن تتطور أو تتدهور إذا حقق طرف على الآخر سبقا أو غلبة تخلخل أركان التوازن الراهن فى هذا السباق. على كل حال وسواء تحقق السبق للصين أو لمنافستها الكبرى يبقى واضحا أن دول العالم النامى إذا لم تستفد من إيجابيات السباق بدرجة أو أخرى فسوف تظل تابعة تهددها وتهدد كيانها أزمات متعاقبة من الجوع والفقر ونقص المياه والطفرة السكانية.
لم يفت على مؤلفى الوثيقة الإشارة بالوضوح الكافى إلى حاجة أمريكا إلى الترتيب لتفجير ثورة صناعية «رابعة». تصادف أن انتبه منظمو المؤتمر العشرين للحزب الشيوعى الصينى إلى ضرورة توفير الحاجة نفسها. من قضى السنوات الأخيرة يحاول التعمق فى قراءة أمريكا هو الآن فى طليعة من شعروا بأن الولايات المتحدة قد دخلت بالفعل مرحلة انحدار، وإذا تركت المرحلة بدون تدخل جذرى أو ثورى فسوف نكون شهودا على بداية النهاية لإمبراطورية سبقت إليها بريطانيا العظمى وفرنسا وألمانيا والبرتغال وهولندا وروسيا السوفييتية. تختلف أمريكا عن هذه الإمبراطوريات الأقدم فى أنها الوحيدة ربما التى تعيش أيامها الأخيرة مهددة بنشوب حرب أهلية ثانية تحمل بين بذورها بذور التدمير الذاتى، أو على الأقل مهددة باستقطابات داخلية قد تكون رهيبة. أما الصين فلم تظهر عليها علامات انحدار. الصين دخلت مرحلة تباطؤ نمو بفعل عوامل كثيرة أهمها خطأ الاعتماد غير المبرر على النمو الهائل فى قطاع المقاولات وتشييد الأبراج والأحياء السكنية. منها أيضا على سبيل المثال الزيادة المطردة ولكن غير المتوازنة فى عدد السكان. الصين بدأت بالفعل تعانى من ارتفاع نسبة كبار السن تقابله نسبة منخفضة من الشباب والسبب المباشر، وتعتذر عنه الآن دوائر النخبة النافذة فى الحزب، هو سياسات تحديد النسل وقد طبقت فى عهد الزعيم ماو مصحوبة بدرجة عالية من الرقابة والعقوبات وشتى أنواع القمع.
فى ظل الفوضى السائدة فى العلاقات الدولية والحرب الروسية الأوكرانية وأزمات الاقتصاد العالمى بسبب وباء الكوفيد توقعت أن تحتل المنافسة حامية الوطيس مع الصين بندا بارزا ومتجددا من البنود أى استراتيجية جديدة تضعها واشنطن هاديا لساستها ونخبتها الحاكمة للسنوات القادمة. الجديد فى هذه الوثيقة أنها ألمحت ولو بكثير من الخجل لإمكانية مزج المنافسة بالتعاون. لا شك أن مؤلفى الوثيقة الجديدة تنبهوا إلى حقيقة أن التعاون بين الدولتين خلال مرحلة صعود العولمة كان له الفضل فى تدشين مرحلة من الرخاء غير مسبوقة فى تاريخ العلاقات بينهما والعلاقات الدولية عامة. هذه الحقيقة لا يمكن إغفالها حتى لو سعى الصقور إلى إغفالها خاصة إذا توفرت أولا الرغبة لصنع ثورة صناعية رابعة فى أمريكا، وإذا توفر ثانيا الاعتقاد بضرورة وقف الانحدار الأمريكى ومنح هذه الضرورة الأولوية فى قائمة خيارات السنوات القليلة القادمة، وثالثا، إذا استمرت الصين تحت قيادة الرئيس شى تفضل سياسات التعاون على سياسات المواجهة والحصار والعقوبات، ورابعا، إذا نجحت الصين فى دفع الدول النامية ودول أخرى فى أوروبا إلى تشكيل جبهة لا تنحاز إلى قوى التطرف والعدوان فى روسيا والولايات المتحدة وتضغط فى اتجاه نظام دولى تعددى وقائم على منظومة قواعد وقيم تحترم حقوق البشر الاجتماعية والاقتصادية إلى جانب حقوقهم السياسية.
أتفاءل بحساب، فالأيام القادمة فى واشنطن قد تحسم أمورا طال أمد التخمين بشأنها. كثيرون منشغلون بالتفكير فى مستقبل الولايات المتحدة وفى مستقبل العقيدة السياسية للمعسكر الغربى وفى التطورات المحتملة للقضايا الكبرى التى تقرر مجتمعة مستقبل الحضارة الغربية التى عشنا فى ظلها قرونا عديدة، وما نزال.
انفردت الوثيقة الأمريكية بإثارة احتمال أن تشهد العلاقات الدولية فى السنوات القادمة صعودا معتبرا فى نوع غير مألوف من القوميات فيما يطلق عليه القومية التكنولوجية.