بقلم - جميل مطر
علمتنا الأيام، وما تزال تعلمنا، أن مسافة بعرض شعرة تفصل بين القيادة والهيمنة. تلقينا هذا الدرس كأطفال ومراهقين وشباب فى حياتنا الخاصة، وتلقيناه كدارسين ومراقبين وممارسين للعلاقات بين الدول. أذكر، وأعتقد أن آخرين فى مثل عمرى يذكرون، كم تمردنا على تلميذ من بيننا تجاوز دوره كقائد للفصل أو اختلط عليه الأمر فراح يهيمن ويسود بدلا من أن يضبط ويقود. وكم ارتضت مجموعة دول أن تقود مسيرتها دولة من بينها شاء حظها أو حققت لها أجيال سابقة من الإنجازات وعناصر الفهم والقوة ما سمح لها بأن تقود. وفى كل الأحوال، إن لم تخنا الذاكرة، كانت الإنجازات التى حققتها وعناصر حسن الفهم والتقدير والقوة التى توافرت لها قابلة لرضاء واستحسان شعوب الدول الأخرى فى المجموعة فاكتملت لهذه الدولة شرعية قيادة دول هذه المجموعة. اكتملت على هذا النحو لمصر شرعية القيادة فى العالم العربى حتى يوم قررت مصر بنفسها التضحية بدورها كقائد لمنفعة أخرى عاجلة تحت الظن أو الاقتناع أنها سوف تنسحب لوقت محدود تعود بعده لممارسة القيادة، واكتملت لأمريكا شرعية القيادة فى العالم منفردة عندما بدأ الاتحاد السوفييتى مسيرة هبوطه حتى انهار منفرطا. هنا اختلط الأمر على صناع السياسة فى أمريكا فحلت الهيمنة محل القيادة وبدأ تفسخ الغرب.
المثير فى الأمر أكاديميا وواقعيا أنه تصادف مع انفراد أمريكا بالقيادة الدولية بدء انحدارها وظهور منافسة قوية تهدد استدامة أحاديتها. هذه العملية احتاجت لتكتمل حوالى ثلاثين عاما. مثير أيضا أن شرعية القيادة التى تكونت لمصر تدرجت صعودا فى مرحلة سعى دول عربية عديدة للحصول على الاستقلال واكتملت حين اقترنت بصعود قومى عارم فى كافة أرجاء الأمة العربية ثم انحسرت بشدة أمام منافسة كثيفة من جانب قوى إقليمية صاعدة من خارج النظام العربى ومن داخله. هذه العملية الإقليمية احتاجت هى الأخرى صعودا ثم هبوطا حوالى ثلاثين عاما لتكتمل. خلال هذه المدة لعبت المنافسة بين مصر ودول فى المجموعة العربية دورا كبيرا سواء فى تحقيق صعود مصر إلى القيادة وفى انفكاكها المتدرج عن هذا الدور. لن نغفل حقيقة أن أكثر من حرب نشبت وأكثر من انقلاب وقع وأكثر من رئيس قتل أو عزل، كلها وغيرها بسبب هذا التنافس أو من أجله.
يختلط الأمر أحيانا على دارسى العلاقات الدولية بين مفهومى الصراع والمنافسة. لهم العذر. فما يبدأ بين الدول منافسة على مكان أبهى فى صورة عن نهاية محفل دولى أو على مكانة أرفع فى إدارة مؤسسة دولية يمكن أن ينتهى صراعا دمويا بين دولتين. تعودنا فى سعينا لبناء شخصيات قوية لأبنائنا وبناتنا أن نشجعهم على التنافس مع أقرانهم فى المدارس والنوادى ثم فى المجتمع بشكل عام. بل يتردد أحيانا رأى يعتقد مؤمنا بأن المنافسات الرياضية والحماسة الشبابية التى ترافقها مفيدة لصحة المجتمعات باعتبار أنها تنفث عن غضب مكبوت فى الشارع فضلا عن أنها تدرب المواطن على أن يتعلم كيف يكره الآخر إن دعته الظروف لذلك، ويتعلم كيف يحب نفسه ووطنه وجماعته وعائلته ويفضلهم على كل الآخرين إن دعته ظروف أخرى. قبل أيام قليلة سمعت جورجيا ميلونى تحث شعبها على شىء من هذا القبيل.
نرى أمام عيوننا جاهزية متزايدة للمنافسة استعدادا لمستقبل غامض، بدايات خيوطها متشابكة ونهاياتها غاطسة فى أفق لا يرى ما قبله ولا ما بعده، مستقبل لا أحد فى الغرب حتى فى أمريكا يستطيع أن يتخيل حدوده وشكله وتوازناته. لا جدال فى أن المرحلة الراهنة فى أوروبا دفعت بعنصر المنافسة فى القارة إلى حدود قصوى سواء فى ناحية الحصول على الطاقة أو فى توفير الشباب الجاهز للقتال والعمل أو فى ناحية تأمين الاستقرار فى قارة نخشى ويخشى أهلها أن تكون عادت أمينة على ماضيها فراحت تلتهب.
• • •
المنافسة بين الدول، من حيث المبدأ وضمن شروط معينة، مفيدة فى صنع الرخاء والنهضة لأطرافها. الأمة التى لا تنافس تفتقر إلى الطموح ومآلها فى الغالب إلى زاوية نسيان. ولكن نعرف فى الوقت نفسه أن للمنافسة وجها آخر بل وجوها عديدة غير طيبة إن هى خرجت عن سياقاتها السلمية والمعتدلة والشرعية. من هذه الوجوه على سبيل المثال وليس الحصر ما يلى:
أولا: يذهب مفكرون وبينهم علماء سياسة إلى أن المنافسة بين الدول مسألة صفرية أو قد تصبح كذلك خلال ممارستها. بمعنى أن الطرفين يعتبران أن ما يكسبه أحدهما يساوى خسارة للآخر وما يفقده طرف يحسبه الآخر مكسبا. مثل هذا الاقتناع يمكن أن يجر الطرفين أو أحدهما فى النهاية إلى استخدام أسلحة دمار شامل ومنها السلاح النووى.
ثانيا: كما أن المنافسة إذا احتدت أو صارت شرسة يمكن جدا أن تدفع السياسيين إلى التخلى عن قيم إنسانية أو أخلاقية. رأينا دولا تستخدم فى لغاتها الإعلامية وممارساتها التفاوضية وبخاصة خلال الأزمات أنواعا شتى من النفاق والكذب والعنصرية. مثل هذه الممارسات لو طال وقتها لتركت فى الذهنية والذاكرة الشعبية آثارا صعب أن تمحى فى وقت منظور.
ثالثا: فى رأى البعض، أن ظاهرة الحكم العسكرى يخضع تفسيرها فى كثير من الحالات إلى ظروف وقواعد المنافسة بين الدول وبخاصة بين الدول النامية. انتشار الظاهرة فى أفريقيا، وانتشارها فى أمريكا اللاتينية بين الحين والآخر خلال القرنين الأخيرين يتصل اتصالا وثيقا بالظن أن هذا النوع من الحكم يحقق حالة استقرار سياسى مؤقت. حاولت دول غربية فرض عقوبات على الدول التى وقعت تحت حكم عسكرى، ولكن فشل هذه الدول الغربية فى تطبيق العقوبات أو تحقيق إنجاز يذكر من فرضها يشعل من جديد جذوة المنافسة. المؤكد فى كل التجارب تقريبا هو أن العقوبات لا تحقق الغرض بل إنها تضيف إلى الشعوب متاعب فوق المتاعب السياسية والأمنية الناتجة عن فرض الحكومات غير الديموقراطية المنشأ والتجربة عقائدها الإدارية والأمنية على المجتمع.
رابعا: لا شك فى أن وجود الصين كظاهرة نجاح خارق فى بناء الأمم والصعود فى النظام الإقليمى والدولى على حد سواء بتكلفة زهيدة شجع دولا عديدة على الاستمرار فى استخدام أساليب حكم شعبوية ظنا من حكامها أنهم بأسلوبهم فى الحكم ينقلون عن الصين برامجها فى التنمية والنهوض، وهو ظن خاطئ بل يمكن أن يولد بممارسته كوارث. حدث فى الجماهيرية الليبية ما يقترب من شكل الكارثة عندما أصر الحاكم المفرد فى ذلك الحين على أن يجرب قيادة ثورة ثقافية فى مجتمع قبلى وعلى أن يمتلك فى الوقت نفسه قنابل ذرية بالشراء من باكستان أو غيرها فيصير زعيما فى الإقليم وندا لزعماء الدول العظمى. منافسة كهذه أودت بحياة الزعيم الليبى حين قررت الدول العظمى تصفيته وكلفت حلفها الأطلسى بتنفيذ هذه المهمة.
خامسا: كنا شهودا خلال السنوات الأخيرة على مقدمات صراع دولى تحت عنوان منافسة بين دولتين إحداهما عظمى تسعى للمحافظة على موقعها كقطب دولى أوحد وأخرى صاعدة بكل معانى المفهوم وتحلم بما هو أبعد من مجرد احتلال موقع عند القمة، تحلم بتوسيع القمة فتكون تعددية لا تهيمن بل تعددية تقود. قيل لنا من واشنطن إنها مجرد منافسة. قيل أيضا وبنفس اللسان أن الطرف الآخر فى هذه العلاقة وهو الصين عدو لأمريكا، بل لعله فى نظرهم ونظر الرئيس ترامب تحديدا، العدو الأعظم للغرب كله وللبشرية ولتاريخ الحضارة. وبالفعل غابت علامات المنافسة وبرزت مؤشرات صراع يمكن له فى مرحلة من مراحله أن يدمر فى طريقه أمما عديدة تحت مسمى المنافسة، هذه الكلمة التى أثمرت بالفعل، منذ نهاية عقد السبعينيات وحتى نشوب الحرب الأمريكية ضد العراق، صعود الصين وإنقاذ أمريكا من الوقوع فى براثن أزمات اقتصادية عنيفة.
سادسا: تحت المسمى نفسه، وأقصد المنافسة، شهدت منطقة الخليج عند بدايات تجمعها وفى أعقاب حرب تحرير سيناء نجاحات مالية ونفطية وتعليمية مبهرة. تنافست دول الإقليم على بناء تحالفات مع دول من خارج العالم العربى. تنافست فى إرسال البعثات إلى الجامعات الكبرى فى الغرب. تنافست فى شراء السلاح وتنافست وهو الأهم ولمرحلة قصيرة جدا فى العمل على تنفيذ مشروعات تخدم فكرة التكامل القومى العربى. تنافست أيضا لتحصل على مواقع متميزة فى المؤسسات الدولية. أكاد أجزم أن المنافسة الصحية بين دول العالم العربى عامة وبخاصة بين دول إقليم النفط والثروة المالية توقفت ليحل محلها أنواع من المنافسة غير الصحية، بمعنى علاقات صراعية أو علاقات أودت بالإقليم كله إلى غياهب أزمة عنيفة من العداء المتبادل لم يفلح معه فى النهاية إلا تدخل حازم من دول الغرب وبخاصة من أمريكا، ولكن بعد أن حققت هذه الدول الغربية استفادات كبيرة من اللعب على أوتار أطراف هذه المرحلة الصراعية فى تطور إقليم الخليج.
• • •
يجب الاعتراف بأن هذه المرحلة، حسب الرأى السائد بين المتخصصين فى شئون العمل العربى المشترك، وبخاصة فى شئون جامعة الدول العربية، كانت الأسوأ من حيث إنها جمدت حال العمل المشترك وجمدت مبادرات تطوير الجامعة أو إصلاحها وساهمت بالنصيب الأوفر فى بعثرة الجهود والنوايا المخلصة التى كانت تسعى لإعادة لم الشمل الذى تفرق فى أعقاب تنفيذ مصر نيتها التخفيف من أعباء قيادتها للجامعة وتنفيذ دول الجامعة نيتها لمعاقبة مصر بتجميد عضويتها فى الجامعة.
هنا أميل إلى أن أردد مع المرددين الأمل فى أن تستعيد الدول العربية التمسك بالسياسات القائمة على مبادئ المنافسة الصحية فى السياسة الخارجية، والعزوف عن السياسات التى نتجت عن استخدام مفهوم المنافسة لتختفى تحته سياسات الصراع والخلاف وتشتيت المصالح العربية. أظن أننا ربما نكون على الطريق السليم بالنظر إلى التغير الواضح فى ملامح السياسة الخارجية لعدد من الدول العربية التى اتخذت مؤخرا، وبمخاطرة تبدو محسوبة، مواقف ومواقع مستقلة نسبيا عن الهيمنة الأمريكية.