بقلم - جميل مطر
صديقى نصحنى أن أتفادى العودة إلى مكان يعرف أننى كنت أحبه. بالمكان كان يقصد حيا بعينه وفى الأغلب شارعا محددا بفروعه أو هذا ما تصورت. اتصلت به مساء أمس. هنأنى على مقال خصصته لنصيحته. شكرت له تهنئته وسألته الصبر على ما نويت قوله استطرادا لمقالى واتصالا بنصيحته. عدت أؤكد أن النصيحة دعمت موقفا كنت اتخذته منذ سنين عديدة. كنت بالفعل كما ذكرت فى مقالى أتفادى فى سفراتى العديدة التوقف فى بلد أو مدينة قضيت فيه أو فيها بعضا من أحلى أيامى بلياليها. أماكن كثيرة شكلت فى حياتى محطات تكوين وإعادة نظر. أستطيع بقليل من التركيز الربط بين سلوك أمارسه فى علاقة أو أخرى وبين اللحظة التى بدأ يتكون فيها والمكان الذى نبتت فيه هذه اللحظة. أفعل هذا الربط كثيرا وبفضل ما أفعل صار معظم الماضى بشخوصه ومتعه وأماكنه حيا. أبالغ قليلا فأعترف أن لا علاقة إنسانية أقمتها طفلا ومراهقا وشابا ورجلا فى منتصف العمر نسيتها أو انفضت عن ذاكرتى. أعود الآن إلى صديقى المنتظر بالصبر على الهاتف لأقول.
عزيزى محمد
هل فكرت وأنت تعد نصيحتك لى بأننا نتبادل مع أشيائنا الحنين والشوق إذا غبنا أو غابت عنا مددا تطول أو تقصر. وهل فكرت بأن الأشياء إن أهملتها فغبت عنها وعدت فستجدها حزينة ومكتئبة وسوف يصلك من ناحيتها رسائل تعبر عن غضب ونية مؤكدة لإهمالك كما أهملتها. تعرف يا صديقى ما يكفى عن سفراتى وتنقلاتى على امتداد العمر الذى بدأناه معا وعشنا نتشارك فى عدد سنينه.
• • •
كانت لنا، زوجتى وأنا، هوايات شتى. إحداها انتقاء وجمع أشياء نشأت، أو أنشئت، فى بطن البلد الذى تقرر لنا أن نقيم فيه لشهور أو سنين. كنا فى سن المراهقين عندما بدأنا الاهتمام بأشياء البلد الذى التقينا فيه وتعرفنا ثم تزوجنا. للهنود تاريخ لا يعادلهم فيه أو يقترب منه إلا أمم معدودة. تاريخهم غنى مثل تاريخ أمم متحضرة، أى أمم عاشت فترات حضارة وخلفت آثارها فى الثقافة والدين والتقاليد وفى مجالات إبداع شديدة التنوع. خلفت الحضارة الهندية آثارا فى الحب لم تخلفها حضارة أخرى. بالمقارنة يمكن وصف حضارتنا الفرعونية بأنها من الحضارات المحافظة ولا أقول «الرجعية». على العموم أترك هذه المقارنات وهى، فى حد ذاتها وبعيدا عن موضوعنا، من اختصاص علماء الآثار والثقافات المقارنة. ما أقول وجدته ينطبق على ما خلفته حضارة الصينيين. هؤلاء اهتموا بفنون إدارة الدولة وأمنها وتحصين قصورها بعد تجميلها وتزويقها بأبدع ما أنتجه خيال الإنسان الصينى على مر العصور. وبالمناسبة تلقب عصور الصين بألقاب امبراطورية سجلها مؤرخون وفلاسفة صينيون وليس بأسماء أسر أو أرقام كما فى العصور الفرعونية التى رتبها ووضع تسلسلها مؤرخون أغلبهم من الأجانب.
• • •
فى الصين أبدعوا فى رسم الطبيعة على الحرير أو فى حفرها ونقشها على الخشب والخزف. من هناك حملت معى فى رحلتى من آسيا إلى أوروبا أشياء صغيرة مثلت فى مجموعها القدرة الرائعة على الحفر والرسم وتشكيل الحجر شديد الصلابة، بعضها ضاع محترقا أو مسروقا من الطائرة التى حملتنا وحملت بعض أشيائنا وفضلت أن تحترق فى وطنها فى اللحظة التى هبطت فيها فى مطار هندى للتزود بالوقود وتغيير أطقمها. البعض الآخر من هذه الأشياء كان فى لحظة الحريق تحمله باخرة فى طريقها إلى ميناء نابولى. هذه الأشياء الآسيوية هى التى سافرت بعد إيطاليا إلى أمريكا اللاتينية ومن هناك إلى أمريكا الشمالية قبل أن تستقر معنا فى القاهرة. خلاصة ما حاولت نقله لك يا محمد هو أننا، العائلة وأشياؤها، أو أكثر العائلة وأكثر الأشياء عاشوا معا لأكثر من سبعين سنة. تنقلوا بين الأربع قارات. أطفالى، أبناء وأحفاد، أكثر من واحدة وواحد قضوا الساعات العديدة من طفولتهم مع تماثيل صينية وهندية وأفريقية يلعبون معها حتى استقر فى أذهاننا جميعا، أننا وأشياؤنا، عائلة لا ينفصم عراها، أو لا يجب أن ينفصم.
صديقى العزيز
هل لا تزال معى مصغيا. هل ما يزال فى معين صبرك ما يتحمل مزيدا من الإنصات لما أقول والانتظار لما يأتى ولم أصل بعد إلى ما أريد قوله. عدت إلى بيتى. فتحت الباب بصعوبة فالأبواب الخشبية تتمدد فى فصول بعينها وتزداد التصاقا بالأرض مصممة على أن تصدر أصواتا مزعجة. صدقنى إن قلت إن خيالى ترجم هذه الأصوات إلى إعلان احتجاج من جانب الباب على تصرف ما أتيته أو أتاه غيرى فى حق المكان أو فى حق أشيائى ولم أعلم به فى الوقت المناسب. توجهت نحو مقعدى الذى لم أجلس عليه لمدة عامين على الأقل. جلست لدقائق لاحظت أننى تقلبت خلالها تقلب المتوتر، تقلبت كشخص لم يجد راحته على هذا الكرسى، وهو الكرسى الذى كنت أفضله على كل كراسى البيت.
• • •
مددت يدى لأشعل المصباح الجانبى. انكشف ضوء ظننت أنه فاتر لن يفى بأى غرض ولو متواضع. رحت على الفور أطمع فى ضوء الثريا غير المحبب فى العادة بسبب الكثرة المبالغ فيها فى عدد مصابيحها، حتى ضوء الثريا أطل خافتا. نظرت حولى مشتاقا لرؤية أشيائى وبعضها عزيز على قلبى، وجدتها فى الضوء الخافت شاحبة الألوان مكسورة الخاطر وحزينة. قرأت فى ثنايا أغطيتها الحريرية وفى انثناءات التمثال العاجى لامرأة مقدسة وفى عيون تمثال من الخشب لرجل كهل حليق الرأس يمثل الحكمة الصينية وفى اليد الممدودة ناحيتى لطفل ينادى ولعله يتوسل حضنا أو ربتة عطف، قرأت فيها جميعا رسالة حب طاغ يتعثر. قرأت مشاعر غضب برىء ولمحات عتاب وتأنيب. ساد السكون للحظات أظن أننى سمعت خلالها صوت بكاء ناعم فى غرفة مجاورة. أسميها غرفة الامبراطورة لأن لوحة تحمل توقيعا بخاتم آخر امبراطورة للصين تحتل مساحة حائط بكامله.
عشت فى هذا البيت سنوات كان لهذه الغرفة أثناءها مكانة خاصة فى نفسى. عبق التاريخ فيها نافذ ومؤثر. جرت فيها بعض أهم مشاورات غيرت مجرى حياتى. جرت فيها أيضا خطوبات ابنى والبنتين. كانت دائما المكان المناسب لألتقى فيها مع نفسى بعيدا عن عيون المتطفلين وآذانهم. كانت الغرفة التى تفرض على زائرها احترام نفسه والآخرين واختيار كلماته بعناية وتبادل الرأى فى أجواء ثقة وهدوء واتزان. وقفت وسط الغرفة فى صمت. شعرت كما لو أن رسالة هائمة فى الغرفة تريد أن أسمعها. وصلت الرسالة وكانت موقعة هى الأخرى بخاتم الامبراطورة وأختام عديد أشيائى سواء ما وجد منها فى الغرفة أو فى غرف أخرى. سمعتها بلسان شخص أو شىء متأنٍ فى نطق مخارج الألفاظ. بعض الكلمات خرجت حروفها مبتلة بدموع أسى أو حرمان أو إهمال.
جمعت الحروف فى كلمات متأثرا برقى اللسان وهيبة الخطاب وظروف الحال ورهف المشاعر فكانت على النحو التالى وبتوقيع «أشياؤك».
مع كل الاحترام ورغم كل الأوقات الرائعة التى عشناها معكم وبينكم، نعتب عليك وعلى الظروف إهمال أحوالنا ومشاعرنا. انتزعتونا من أوطاننا ومن أحضان أهالينا ومن تراب بلداتنا لنعيش معا ثم خطر لكم أن تنفرطوا. والذنب ليس ذنبنا. رحلتم بعد أن أودعتونا مكانا منعزلا لا حس فيه ولا خبر. من فضلك أعدنا إلى الحب الذى وعدتنا به وعشنا فيه فكان النعيم، أو خذنا لأوطاننا. كفانا ذل الاغتراب وقسوة العيش فيه.