بقلم - جميل مطر
تعارفنا على الطائرة التونسية فى رحلة لها من مطار قرطاج فى العاصمة التونسية إلى مطار ليوناردو دا فينشى فى روما العاصمة الإيطالية. أثبتت خلال الرحلة، وبعدها، امتلاكها لقدرات لا تتوافر مجتمعة لفتاة فى هذا العمر الغض. ساعدتنى هذه القدرات فى مهمة تقديمها إلى مجموعة من المشتغلين بدراسة هموم الناس وطبائع الشعوب وبخاصة شعوبنا العربية. استطاعت فى شهور قليلة أن تكسب احترام أصدقائى فى هذه المجموعة وخارجها. لفتت الانتباه فى أول حضور لها إلى قوة شخصيتها واعتدادها الثابت باستقلاليتها واتساع دوائر اطلاعها وقراءاتها.
●●●
أتيح لى بحكم موقعى فى تاريخ هذه العلاقة أن أكون شاهدا على قدرتها اتخاذ مبادرات وقرارات ما كانت لتقدم عليها امرأة فى سنها. شعرت منذ أول اشتباك كلامى بيننا أن هذا الوجه الصبوح والهادئ فى جميع ملامحه يخفى ما لا يمكن أن يحمله أو يحتمله شخص عادى. تأذت كثيرا، وللدقة الضرورية والأمانة اللازمة أصحح ما كتبت. قلت تأذت والحقيقة تصرخ بأنها هى التى أوقعت بنفسها وفى نفسها الأذى. ثم حل الندم. حل ثقيلا ومخربا وفى أحيان سوداء حل مدمرا. دمرت الرجل، وكان أول رجل فى حياتها. وبعده دمرت من أتى ليصلح ما أفسدته بإرادتها الحرة. لم تسمح لرجل أن يهيمن عليها ولا لرجل يسعى ليهيمن عليها منفردة أو مع غيرها من النساء.. لم تخف يوما خوفها على مستقبل ورخاء أمة من رجل يهيمن. تصورت فى وقتها أن الرجل بطبيعته خشن على عكس المرأة التى هى بطبيعتها ناعمة نعومة الحرير ورقيقة رقة فراشة هائمة تنثر الجمال أينما راحت أو استقرت.
●●●
مرت سنوات. شاركت فى إحداها فى مؤتمر بنيويورك انعقد بدعوة من الأمم المتحدة من أجل دعم الجهود والأفكار الداعية إلى دعم حقوق المرأة. كانت المرأة قد حصلت بالفعل على حقوق لم تكن تتمتع بها بسبب سيادة عادات وتقاليد ومذاهب وعقائد شتى. شعرت فى المؤتمر بأن بعض الرجال غير المنضوين تحت أعلام غربية كشفوا عن تردد واضح ثم عن رغبة صريحة فى أن يحدوا من اندفاعهم فى مسيرة أنصار الحقوق، إلى لا حدود. أعرف نيويورك وأعرف عن القوى الهائلة الخفية التى تعمل ليلا نهارا لتجعلها مدينة فريدة فى نوعها. منذ أن زرتها لأول مرة وكنت طالبا أدرس فى جامعة بمونتريال ونزلت إلى نيويورك فى ضيافة صديقى نبيل العربى دأبت على التنقل بين مقاهيها. أجلس بالساعات لأسمع نمائم نيويورك ولا يصيبنى ملل أو تبرم. صرت أعرف كيف أميز بين لهجة النيويوركى من أصول وسط أمريكية ولهجة المنتسب لليهودية ولهجة المثقف ولهجة المهاجر. تخليت مرارا عن خجلى الموروث وفعلت ما يفعلون، أسحب مقعدا وأجلس على مائدة يشغلها عميل أو عميلة وأفتح نقاشا. مرات اشتريت ما يؤكل جافا أو باردا وجلست على أريكة سبقتنى أو سبقنى إليها مواطن أو مواطنة نيويوركية. وفى أحد هذه المرات كانت شريكتى امرأة فى أواسط عمرها على قدر هام من الأناقة والجمال وقد كتبت فى هذا المكان عما دار من حديث بيننا. كانت هى التى طلبت منى أن أحذر زميلاتى اللائى قدمن إلى نيويورك لدعم قضايا المرأة وحقوقها من المبالغة فى دعمهن ومطالبهن، وما أطلقت عليه، حربهن ضد الرجل.
●●●
أعود الآن إلى صديقتى التونسية بعد غياب دام سنوات كما ذكرت. اتصلت لتخبرنى أنها فى القاهرة وأنها صارت فى نهاية مدة إقامتها. لم تشأ الاتصال مبكرا بعد أن عرفت أننى استبدلت بشكل مؤقت مكان إقامتى فى وسط المدينة بمكان فى ضاحية بعيدة. تقابلنا وتبادلنا من الأشواق ما يتناسب ومكان اللقاء والحاضرون بالمصادفة أو بالترتيب. انتهينا من مجاملات اللحظة وواجباتها لتبادر الصديقة بالاستفسار عن أسباب الحملة الناشبة فى مصر تحت عنوان إلزامية المرأة. لماذا الفرض؟ إذا فرضوا علينا إلزاما أو آخر فهو العودة إلى الاستعباد. اتركونا نقرر ماذا نريد من الرجل. أنا حرة فى اختيار ماذا أريد من الرجل وأنا من يقرر ماذا أمنح وماذا أمنع. أفعل ما أريد بدون إلزام. كتبت لك بعض خواطرى ويبدو أنها لم تصل. أها أنا أبعثها لك مرة أخرى لتعرف منها كم تغيرت. أنا الآن امرأه أخرى، ولكن فى النهاية أنا امرأة حرة. إليك نص رسالتى التى لم تصل.
«تصادف أن اجتمعنا أصدقاء قداما، وأنا وزوجى، فى العشاء فى عاصمة أوروبية. عاتبنى أحدهم على ترددى فى الاختيار ولجوئى إلى زوجى ليحدد لى ما سوف أتناوله من أصناف الطعام، وأضاف متسائلا بصوت جهورى أليس لديك إرادة؟. بقيت كلمات ذلك الصديق تزن فى أذنى لأيام وأسابيع. وفكرت فيها مليا. لم أتحدث مع أحد فى الأمر لكنى صرت أراقب أصدقائى وصديقاتى المتزوجين. وللصراحة، بت أراقب نفسى أكثر.
ما المانع أن أدع زوجى يدفع عنى فى المطعم أو أدعه يختار ما سنأكله؟
ما المانع أن أدعه يختار أين سنمضى السهرة إن كنت أعرف أن خياراته تناسبنى؟
ما المانع أن أدعه يشعر أنه «الرجل» فى علاقتنا وفى منزلنا طالما أنا راضية وأحظى باحترام شديد؟
ما المانع أن أهتم بأهله وأصدقائه إن لم يتسن له القيام بالمثل؟
ما المانع أن أهتم بشئونه إن كان عمله لا يسمح له ذلك؟
ما المانع أن أعبر له عن مشاعرى حتى لو لم يكن قادرا على فعل الشىء نفسه لظروف ما عاشها ولطباع شخصية؟
ما المانع أن أحيطه بالرعاية والحب حين أشعر برغبة فى ذلك دون مقابل ودون أن أنتظر شيئا منه؟
ما المانع أن أكون سعيدة فى علاقة لست فيها، أقلها علنا، صاحبة الكلمة الأخيرة؟
ما المانع فى أن أهديه هدية ثمينة أعرف أنها ستعجبه؟
لست بضعيفة لكننى أذوب حرفيا حين يمسك يدى عندما نقطع شارعا، أو يفسح لى المجال لأمشى أمامه أو يفتح لى باب سيارته.
بالمناسبة لا أعرف امرأة أشد تمردا مما كنت عليه قبل زواجى. لا أعرف امرأة أكثر غضبا وحقدا منى على الرجل بسبب غلطة ارتكبها رجل بحقى قبل عقود طويلة. لكنى وجدت رجلا، أصبح زوجى، وقبله رجالا وقفوا بجانبى وساعدونى فى النهوض من أزمات خطيرة كانت لتودى بحياتى. لست هنا فى معرض التقليل من شأن النساء أو احتقارهن. على العكس تماما. وإن كان هناك أمر تعلمته واكتسبته من هؤلاء الرجال، فهو أنهم علمونى أن أعيش كامرأة وأحب نفسى كامرأة، أنا الذى كان الرجل فى حياتى مرادفا للشر.
أنا الآن امرأة مكتملة فى ذاتى ومع ذاتى، متكاملة مع رجلى وراضية عن نفسى كامرأة على «عصمة» رجل. أفعل ما أفعل بدون إلزام».