بقلم - جميل مطر
استأنفت ما كنت أفعل قبل زيارتها المفاجئة. مرت دقائق تيقنت فى نهايتها من أننى فقدت بعض لياقتى التأليفية. الكلمات تتعثر، والأفكار تتعنت، والسبب ليس صعب الفهم أو التخيل. أغلب ظنى أننى لمحت دمعة تحاول التفلت من أسر عين لتنساب حرة طليقة على خدٍ. هى واحدة من نساء اقتربن من طبيعة عملى واهتمامى إلى حد صارت تفاصيل حيواتهن جزءا من هذه الطبيعة. وحلت متابعة تطورات أحوالهن أمرا من أمورى العادية. أفراحهن من على البعد أفراحى، وأحزانهن أحزانى. فاجأتنى بضعفها فى وجودى. أحسست بمشاعرها تتضارب وتتدافع نحو أزمة تكاد تسيطر عليها وتهيمن وهى القادرة دائما على التغلب على الضعف أمام الغير وبخاصة أمام صنف الرجل.
تدافَعَت فى مخيلتى الذكريات. عرفتها امرأة فى عمر الشباب. كلاهما من نوع خاص. كانت امرأة من نوع خاص، وكانت شابة من نوع خاص. جمعت فى شخصيتها نعومة النعامة وصلابة الفولاذ، وفى جسدها اجتمع إبداع خالق فريد بروح فنان من البشر، وفى عينيها اكتمل سحر الكتمان بعبقرية البوح والتصريح. كنت هناك عندما أحبّت، وعندما قررا أن يتزوجا، وعندما أنجبا طفلهما الأول. كنت هناك عندما تولت منصبا جامعيا مهما، وعندما كُلّفت بإدارة وتسيير مؤسسة سياسية من أهم مؤسسات الحكم فى الدولة. لم أسمع يوما أنها قصّرت فى توفير البيئة اللازمة لعش زوجية يتغير مع الوقت شكلا ومكانا ويتسع مع كل زيادة فى عدد سكانه. يفوح فى جنباته عطر الهناء والرخاء، وتزدان جوانبه بعلامات السعادة حتى صار نموذجا لم يفلح فى تقليده إلا القليلون.
• • •
مرات عديدة التقينا فى مدن غير القاهرة. التقينا مرات بالمصادفة ومرات بالترتيب عندما كنا نسافر ضمن وفود رسمية أو ثقافية. أنا شخص أحب السفر. لا شىء يمتعنى مثل التجوال فى أحياء مدن لم أزرها من قبل أو فى شوارع مدن زرتها فاحتضنتنى. أمشى فى شوارع بدون أسماء. أسحب كرسيا وأجلس أمام محل إلى جانب صاحبه. يحكى لى عن تاريخ الشارع وأيام كان يساعد والده ويتعلم منه أسرار المهنة ومراسم التعامل مع الزبائن. أسأل عن تقلبات الزمن. أسأل عن سنوات شاقة وسنوات خضراء. أسأل عن أهل الحى وكيف تغيروا، أ للأحسن فى رأيه أم للأسوأ؟. أشرب قهوته وأنا أستمع إلى تسجيل حى لمرحلة فى تاريخ شعب. متعة لا تعادلها متعة أخرى من متع السفر العديدة. أنهض ساحبا الكرسى إلى حيث كان ومودعا الرجل وشاكرا كرمه وحسن ضيافته. كان موعدنا سيحل عند انتهائهما من جولة تبضع، وكان لقاؤنا سيتم فى مقهى بعينه. مقهى قضيت فى بعض أركانه أحلى ساعات رحلاتى إلى هذه المدينة المحببة إلى قلبى وعقلى، وأكلت على موائده أطيب ما أبدع صنعه طهاة العرب من حلوى، وشربت من القهوة أقواها طعما ومفعولا.
• • •
وجدتهما فى الانتظار. قادنى إليهما نادلى المفضل ولم ينصرف عنا إلا بعد أن همس فى أذنى بكلمات لا تصدر إلا عن خبير صادق وحكيم. فهمت من همساته إنه لم يشأ أن يزعج صديقى وصديقته فيسألهما عن رغباتهما من أنواع المشروبات والمأكولات لديه، «فى الحقيقة، وأرجوك وأنت العميل القريب إلى قلوبنا ألا تغضب، لم أشأ من على البعد أن أفقد مشاهدة هذا الفيض من الحب الذى عشت لحظات أتأمله مستمتعا. دخل صديقك ورفيقته إلى مقهانا تسبقهما وفى ركابهما أجواء حب كبير. سيدى، أنا لا أبالغ حين أقول إننى لم أشاهد كل هذا الحب فى أى يوم من أيامى هنا. أؤكد لك أن الرضا الذى اكتسى به وجهك لحظة دخولك إلى المقهى كان بعضا من لفحات حب أسبغاه بوجودهما فى المكان وطلاتهما، وما تبادلاه بنظراتهما من أحضان على أشياء المقهى والعاملين كما على الزبائن. الآن اسمح لى بأن أتوجه لهما بالاستفسار عن أفضلياتهما من مأكولات ومشروبات، وليتك تشير عليهما وتتدخل فى اختياراتهما. كنت دائما أحسن الذواقة وأفضلهم على الإطلاق».
طلبت منهما مرافقتى فى جولة ندور خلالها على معروضات المحل المرتبة بأناقة وجمال داخل خزائنها الزجاجية. حاول الزوج التهرب بالطلب إليها أن تختار نيابة عنه كما تعودا. رفضنا كلانا. هناك فى صالات العرض استدارت لتلفت نظر زوجها إلى براعة العرض بأن ذكرته بيوم من أيام رحلة مشهودة لهما فى مدينة النور. يومها وقفا أمام قطع نادرة الجمال والقيمة. تحكى لنا عن ذلك المشهد فتقول «كنت أركز منبهرة على أغلى ما فى الكون من مجوهرات فى محل هو بدون شك الأشهر، لم أنتبه إلى أن زوجى هذا الذى يقف بيننا الآن كان يتابع نظراتى ومواقع تركيزى. كان كعادته التى تعرفت عليها فى الأيام والسنوات اللاحقة واعتدتها بدورى يقرأ ما أفكر فيه ويسبقنى إلى القرار. يا الله ما أطيب هذا الرجل وأزكاه».
• • •
صديقتى وَعَدت وأوفت. كان قد مر على تعارفهما ثم زواجهما عقود غير قليلة، وعلى اجتماعنا فى المقهى عقود أقل. عادت وجلست أمامى فى صالون مكتبى جلسة من أعدّ خطابه إعدادا جيدا. شربت قهوتها وأطفأت سيجارتها التى استأذنت أن تدخنها وحملتها فى طفايتها إلى حمام الغرفة وعادت بها بعد غسلها لتضعها فى مكانها. عرضت عليها قهوة أخرى فقالت «أراك مشغولا بى وقلقا أكثر من انشغالى بنفسى. أنا لست قلقة أو متوترة. انتهت نوبات القلق والتوتر. تعرف كم أحب زوجى وسمعت منى الكثير والمطول عن السعادة التى عشت أرفل فيها طوال سنوات زواجنا. حكيت لأولادى عندما كبروا عن هذه السعادة، وكيف أن لها الفضل فى سعادتهم كأطفال ثم كمراهقين وشبابا. حكيت لكل من يسأل من زميلاتى وزملائى فى مجالس الكبار من الرسميين عن السر فى نجاحى اجتماعيا ووظيفيا وسياسيا. لم أخفه أو أكتمه فى صدرى، إنه حبى لهذا الرجل الفريد فى أخلاقه وقيمه وعلاقته بى وبأولادى. لا أرى من هو أجمل أو أفضل أو أكثر التزاما منه. ولا أظن أننى سوف أقابل نظيره فى أى موقع أو بيت».
سكَتَت وأطرقت ثم نظرت نحوى مليا بعيون هائمة وقالت، «هل تعرف أن زوجى وبطل حبى لم ينطق مرة واحدة بكلمة أحبك. لم أسمعها منه. عشت كل مراحل العلاقة التى ربطتنا، وسوف تربطنا إلى الأبد، أحلم بها تصدر عنه وليس عن غيره من عشرات لم يبخلوا بها أو كتموها فى صدورهم. تمنيت أن أسمعها منه يوم خطوبتنا، ويوم زواجنا وليلته، ويوم ولادة ابنى، ثم ابنتى، وأيام قضيتها إلى جانبه عند انتكاس صحته. لم يخطئ مرة واحدة وينطق بصوت عال أمام الناس أو بهمسة فى أذنى بالكلمة الأروع نغمة ومعنى وعاطفة، الكلمة التى تقدسها كل امرأة، كلمة أحبك. مسكينة أنا. أحب رجلا ويحبنى ولا يريد أن ينطق بكلمة أحبك. عزائى الوحيد أن شاعرا أحببت شعره فى صباى كتب قصيدة يقول فى صدارتها: أحبك.. لا.. لا تنطق الكلمة.. دعها بجوف الصدر منبهمة».