توقيت القاهرة المحلي 12:11:05 آخر تحديث
  مصر اليوم -

أحيانا يكون الصمت صاخبا

  مصر اليوم -

أحيانا يكون الصمت صاخبا

بقلم - جميل مطر

هو يتحدث إلى نفسه فى صمت: أحسنت صنعا عندما اخترت كعادتك المقعد على الممر. أنت هنا تحوز على حيز أوسع لتتحرك فيه إحدى ساقيك على الأقل بحرية. من هذا المقعد أنت، كعادتك، تهيمن على الحركة داخل الطائرة. لن يفوتك الكثير. تعلمت بالتجربة أن أكثر الركاب يتمنون أن تتاح لهم الفرصة ليتجولوا فى الطائرة. البعض يفضل قضاء بعض وقت الرحلة يمارس الدردشة مع المضيفين والمضيفات ومع الطيار أو مساعده، أيهما يخرج من سجنه فى كابينة القيادة ليحارب الملل، عدو كل طيار.
هو: أحسنت صنعا عندما كلفت شركة متخصصة فى استقبال الركاب الراغبين فى تفادى الاحتكاك بصعوبات أمنية وبيروقراطية. استقبلنى مندوب واصطحبنى من خارج المطار لأمر مع بطاقة سفرى ووثائقى الرسمية وحقائبى عبر عديد الإجراءات حتى أصل أنا وحقيبة يدى إلى باب الطائرة. هناك عند الباب أستلم من مندوب الشركة أوراقى وأشكره على الخدمة الممتازة وأدلف إلى الطائرة لأجد فى استقبالى مضيفة مبتسمة تدعونى مرحبة لمرافقتها حتى أصل معها إلى مقعدى. أخلع لها جاكتتى بطلب منها فتحملها بحنان واحترام، وقبل أن تغادر تستفسر منى عن حاجتى إلى مشروب معين يعيننى على مواجهة لحظة الانطلاق فى رحلتنا الطويلة وعن الجرائد والمجلات التى أفضلها، وفى صمت تشير بدلال إلى مكان فوق صدرها. هناك حيث أشارت رأيت اسما محفورا أو مطبوعا بخط واضح. صرت أعرف من التجارب السابقة أن المضيفة المتميزة تفضل أن أناديها عند الحاجة باسمها وأننى يجب أن أشعر خلال الرحلة أننى ضيف غير عادى.
استمر توافد الركاب. أحب أن أكون فى انتظارهم عن أن أكون بينهم. أحب رؤيتهم يمرون متريثين أمامى فى ممر الطائرة. أعاينهم راكبا راكبا وراكبة راكبة. أتسلى بما أفعل وفى أحيان كنت أمتحن فراستى فى الناس. أخمن ما يمتهنون أو يحترفون وأقرر بينى وبين نفسى إلى أى حالة اجتماعية ينتسبون. وفى نهاية الرحلة أوظف المضيفين والمضيفات للتحقق من حسن تخميناتى وقراراتى. قطع حبل انتظارى اقتراب سيدة فى طابور الركاب السالكين الممر من حيث جلست. عيناها من دون بقية المارين مسلطتان ناحيتى. ملأ النظرة فضول ورغبات وأمنيات واحتمالات. عرفت من النظرة أن صاحبتها إما أنها تعرفنى أو تعرف عنى أو أنها صاحبة المقعد الخالى المجاور للشباك. هذه القادمة فى اتجاهى قد تكون جارتى لساعات عديدة. الانطباع الأول من على البعد لا يشى بالكثير. ليس صحيحا ما كان يقوله لى معلم اللغة الفرنسية خلال سنين مراهقتى، وهو الذى حمل على عاتقه مهمة إنضاجى فى مجالات أخرى غير مجال تعلم الفرنسية. كان يقول «كل النساء سواء من على البعد وفى العتمة». لم تنقض سنوات قليلة إلا وقد تأكدت من زيف قوله وضيق أفقه وعمق تعصبه. أفقت من انشغالى بانطباعى الأول عنها وقد صارت المضيفة فوقى ترجو منى السماح للراكبة بالمرور نحو مقعدها إلى جانب مقعدى. نهضت بدون تثاقل لأفسح لها مساحة أرحب. تركت مقعدى وخرجت إلى الممر لتدخل هى إلى مقعدها. وما هى إلا دقائق إلا وكنا فى الجو.
• • •
هى تتحدث إلى نفسها فى صمت: أخيرا انتهت المجاملات الرسمية وعدت حرة ولو لساعات الطيران. أريد الآن مشروبا كالذى فى يد جارى. المضيفة نبيهة قرأت ما يدور فى ذهنى وها هى قادمة نحونا. جارى مهذب كما خمنت وأنا أمشى فى الممر نحو مقعدى. رجال كثيرون لا يتركون مقاعدهم لتمر جارة لهم. يكتفون عن عمد أو عن نقص فى التربية الأخلاقية بتوسيع المسافة بين ركبتيهما فتتسع قليلا وليس كثيرا مساحة تسمح بمرور الجارة. خمنت أيضا أنه يكتب ففى يده كما من حوله على مقعده بل وعلى مقعدى صحف ومجلات أجنبية سارع عند وصولى برفعها ووضعها فى الجيب الخلفى للمقعد الذى يجلس وراءه. يهمنى جدا معرفة انتماءاته ومختلف هوياته وموقعه الحقيقى من النساء وموقفه من قضاياهن، قضايا المرهفات منهن والفقيرات أيضا. لن أبادر على كل حال. سيفعل ذلك بالتأكيد. المهم، والمثير بالنسبة لى، أن أرى ابتكارا فى اختياره أسلوب وتوقيت المبادرة بالتحدث معى. سئمت التكرار. أريد تجديدا حتى فى هذه المسألة.
• • •
هو يتحدث إلى نفسه فى صمت: طبعا هى الآن تحسب حساب الرد على مبادرتى بالتحدث إليها. مثل كل النساء هى تتنظر منى أن أبادر. أعرف أنها سوف تبادر. أما كيف عرفت فأمره بسيط للغاية. هذه امرأة واثقة من نفسها إلى أبعد الحدود. رأيتها تمشى فى الممر متوجهة نحوى، أقصد نحو مقعدها، مشية الواثقة من نفسها. واثقة من أناقتها، محتشمة فى ملابس معبرة بقوة عن أنوثتها، بوجه وجسم يحيران الغريب الساعى وراء حقيقة عمرها. من منا لم يحاول أن يحظى بشرف الفوز فى استدلال عمر امرأة. إنه بلا شك شرف مستحق. نظرتها لى وهى تقترب منى لتنفذ إلى مقعدها حملت رسالة لعلها الأسرع فى كل ما وصلنى من رسائل أنثوية. رسالة صامتة تعلن قبول صاحبتها التحدى. من منا سوف يثبت أنه الأقوى صمودا أمام مختلف الإغراءات التى يثمرها هذا النوع من الرحلات الطويلة. أعرف جيدا نوع وحجم الخسارة التى يمكن أن تنتج عن خطأ واحد يقع فيه أى منا فى تصرف غير موفق أيا كانت النية وراءه. الدقة والحرص والذكاء وسرعة البديهة وهدوء الأعصاب والصبر كلها وغيرها شروط يجب توفرها إن شئنا كلانا قضاء رحلة ممتعة فى الطائرة نعيش نذكرها. من ناحيتى سوف أبذل أقصى الجهد لتحييد عواطفى وقد أفلح. نعم، من ناحيتى سوف أعمل ما فى إمكانى لأجعلها رحلة ممتعة أعيش لأحكيها.
• • •
هى تتحدث إليه بالهمس وهما ينزلان من الطائرة: أما وقد صرنا على وشك أن يستقل كل منا سيارة الليموزين المصطفة فى انتظارنا تحت سلم الطائرة والتى سوف تأخذنا إلى الفندق؛ حيث يعقد المؤتمر، دعنا نتعهد بأن نجعل إقامتنا هنا ممتعة كرحلتنا.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

أحيانا يكون الصمت صاخبا أحيانا يكون الصمت صاخبا



GMT 14:59 2024 الثلاثاء ,03 أيلول / سبتمبر

مشاهد مُستَفِزَّة.. “راكبينكم راكبينكم..”!

GMT 06:36 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

… لأي قائمة يسارية ديمقراطية نصوت ؟!

GMT 06:23 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

ماذا قال يمامة؟

GMT 06:16 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

مشكلة إصلاح التعليم

GMT 07:57 2024 الأحد ,21 تموز / يوليو

رصاصة النجاة

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 10:54 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر
  مصر اليوم - الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر

GMT 10:18 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

"نيسان" تحتفي بـ40 عامًا من التميّز في مهرجان "نيسمو" الـ25
  مصر اليوم - نيسان تحتفي بـ40 عامًا من التميّز في مهرجان نيسمو الـ25

GMT 07:44 2024 الإثنين ,11 تشرين الثاني / نوفمبر

البنك المركزي المصري يعلن تراجع معدل التضخم السنوي

GMT 22:26 2018 السبت ,20 كانون الثاني / يناير

مبيعات Xbox One X تتجاوز 80 ألف فى أول أسبوع

GMT 14:26 2016 الجمعة ,16 كانون الأول / ديسمبر

أبطال " السبع بنات " ينتهون من تصوير أدوارهم في المسلسل

GMT 18:22 2017 الخميس ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

الكشف عن "هوندا سبورت فيجن GT" الجديدة بتصميم مثير

GMT 05:34 2016 الثلاثاء ,27 كانون الأول / ديسمبر

إيفانكا ترامب تحتفل بعيد الميلاد في هاواي

GMT 09:27 2024 الخميس ,09 أيار / مايو

أهم صيحات فساتين السهرة المثالية

GMT 10:34 2023 الثلاثاء ,24 كانون الثاني / يناير

الأردن يسلم اليونسكو ملف إدراج أم الجمال إلى قائمة التراث

GMT 04:47 2021 السبت ,02 تشرين الأول / أكتوبر

الفنان محمد فؤاد يطرح فيديو كليب «سلام»
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon