بقلم - جميل مطر
علمتنى سنوات الممارسة الدبلوماسية والأكاديمية والإعلامية درسا له قيمته المعتبرة. علمتنى أن للسياسة دورات كدورات الاقتصاد. علمتنى أيضا أن للدول أمزجة كأمزجة البشر متقلبة ومتراوحة. ذهب بنا الظن أحيانا إلى الاعتقاد بأن الحروب من صنع سياسيين ورجال أعمال وقادة عسكريين أما الشعوب فقد اعتقدنا أنها فى غالبيتها ركنت منذ بدء الخليقة إلى السلم وأنها تكره الحرب ولا تذهب إليها إلا تحت إيحاءات أو ضغوط ذوى المصلحة فى الدولة. تأثرنا بفكر وعقيدة أيديولوجيات بعينها حين التزمنا فى تحليلاتنا وتقاريرنا الاعتقاد فى سلمية الشعوب. كثيرا ما تجاهلنا احتمال أن تكون للشعوب أمزجة كأمزجة الأفراد تتغير مع الوقت وضغوط الظروف، تتغير مع الحاجة إن مست نمط حياتها. تتغير مع تراكم الإحباط وانحساره ومع تراجع الأمل وعودته. تتغير بطول وشدة ضغوط الإيحاء والمراوغة من جانب صناع السياسة والقرار وأصحاب المصالح الاقتصادية وبخاصة صناعة السلاح ومن جانب قادة الطبقة الدينية.
نشأنا سياسيا على فكرة أن فى العالم شعوبا اقتنعت بالسلم أسلوب حياة وتعامل مع الدول الأخرى. عشنا عقودا تحت الظن بأن اليابانيين والألمان تحديدا تخلوا نهائيا عن اعتناق الحرب وسيلة للنهوض والصعود. كثيرون بيننا اختلطوا بأفراد من كلى الشعبين أو عاشوا معهم فى مجتمعاتهم وعادوا باقتناع أن هّذه الشعوب بطول ممارسة السلم والتعمق فى اعتناقه فقدت نهائيا مزاج الحرب تحت أى ظرف أو اعتبار. أنا شخصيا قابلت مفكرين وعلماء وشخصيات من مهن متنوعة من بنات وأبناء هذين الشعبين ورثوا الشعور بالخزى والعار لأن أجدادهم شنوا حروبا أو اشتركوا فيها وضحوا بحياتهم دفاعا عن عقائد تحبذ العنف اعتنقها وبشر بها زعماء سياسيون. وقتها سألنا وتبحرنا فى السؤال عن احتمال العودة إلى امتلاك مزاج العنف فى ممارسة سياسة خارجية لنعرف أن هناك من أعاد صياغة دستور البلد، وأن هناك من اقتلع من مؤسسات الدولة ومناهج التعليم ومن التقاليد والأعراف أى نص أو بند يشجع المواطن على تبنى مبدأ الحرب حلا لأى مشكلة مع الخارج.
لا جدال فى أن الكثير فى أحوال الدول قد تغير خلال السنوات الأخيرة. تغيرت الأوزان النسبية فى علاقات الدول ببعضها. تغيرت، ولعله التغير الأهم، رؤية الدول الكبرى لذواتها. بدأنا نسمع رئيسا بعد رئيس لأمريكا، الدولة الأعظم والأقوى، يفصح عن انحدارها ويصر على ضرورة عمل المستحيل لتعود إلى عظمتها. كان لا بد أن يسبق هذا المستحيل إجراءات منها تحشيد مؤيدين وتعبئة وتخصيص موارد وإنعاش اليمين المتطرف، ومنها إعداد الساحة الدولية لحالة هى الأقرب إلى وضع التعبئة لأغراض حرب. ولكل هذا تأثيره النفسى المباشر على الحالة النفسية للشعب الأمريكى وشعوب دول أخرى حليفة لأمريكا أو معتمدة عليها فى مسائل حيوية كالأمن والاقتصاد. على سبيل المثال وليس الحصر كان للعقوبات التى فرضتها واشنطن على الاتحاد الروسى والمتعاملين معه آثارها المباشرة والعاجلة على نفسية شعوب أوروبا. نعرف الآن أن بعض العقوبات كانت بالغة القسوة. ونعرف أن الاحتلال العسكرى الروسى لأراضى أوكرانية كان أيضا قاسيا وعنيفا فضلا عن سوء تنفيذه مما ضاعف من آثاره المدمرة فى نظر شعوب أخرى تقع فى الجوار الروسى وفى نظر شعوب بعيدة عنه فى جنوب وغرب أوروبا، بل وامتدت آثاره إلى أفريقيا وأمريكا الجنوبية، وامتدت بشكل خاص إلى دول فى شرق وجنوب آسيا.
• • •
لم يعد هاما أو ضروريا البحث والإعلان عن الدولة المسئولة عن نشوب هذه الحرب رغم ما تسببت فى حدوثه على جميع الأصعدة. يهمنا بمناسبة موضوع هذا المقال الإشارة إلى أنه من بين ما تسببت فى حدوثه هذه الحرب تطورات كان لها أبعد الأثر فى الحالة الثورية، ولا أقول الفوضوية، التى يئن تحتها النظام الدولى الراهن. من هذه الآثار حسب ما أرى:
أولا: اكتشفت دول فى أوروبا أن الاعتماد فى أمنها على أمريكا لم يعد سياسة مقبولة ولا يمكن الاستمرار فى تبنيها. فبالنظر إلى ضخامة الخسائر التى ترتبت على قرار أمريكا مواجهة روسيا بمد أوكرانيا بالسلاح المخزون فى أوروبا وبالأموال الوفيرة وبالعقوبات الاقتصادية وعلى رأسها الطاقة، ثبت بالدليل القاطع أن أمريكا لم تتشاور مسبقا وبالشكل الكافى مع حلفائها ومن استشارتهم لم تأخذ بمشورتهم وأهملت مصالحهم، فكانت النتيجة أزمة مستحكمة كشفت لروسيا والصين أيضا عن مدى ضعف أوروبا استراتيجيا فى أى مواجهة أو أزمة فى المستقبل القريب.
ثانيا: ارتبكت أمريكا. نراها تلجأ بخطوات غير واثقة لفنزويلا عدوها اللدود فى أمريكا الجنوبية لتستعيد تشغيل آبار نفطها وتوزيعه. ومع ارتباك أمريكا تمادت دول فى أمريكا الجنوبية وخارجها، كالحادث فى الشرق الأوسط، فى إعادة النظر فى سياساتها النفطية والخارجية وبخاصة علاقاتها بالولايات المتحدة.
ثالثا: تسببت ضخامة العقوبات فى إثارة مشاعر أوروبية كان الظن أنها هدأت بعد طول اطمئنان خلال الحرب الباردة. فإلى جانب عودة الرغبة فى صفوف الشعب الألمانى إلى الحاجة إلى برنامج تسلح ألمانى يتناسب مع قدراتها الاقتصادية وظروفها الأوروبية صرنا نسمع اقتراحات ألمانية لقيادة برنامج للأمن الأوروبى مستقل الإرادة والتوجيه. لا يغيب عنا الأثر المباشر الذى تخلفه مثل هذه الاقتراحات على بولندا وشقيقاتها من دول وسط وشرق أوروبا، كما لا تغيب عنا آثار الحماسة البولندية المتفاقمة نتيجة التهديد الروسى الماثل على حدودها على العلاقات البولندية الألمانية. أسباب كلها تدفع ألمانيا لتتسلح. كلنا نعرف أن ألمانيا إذا عادت تتسلح فالمنطق التاريخى يذهب فورا فى كلا البلدين فى اتجاه تجدد فرص النزاع وفى أحسن الأحوال التوتر الشديد.
رابعا: تصادف، وفى رأيى هناك ما هو أكثر من الصدف، تصادف أن اليمين، وبعضه متطرف، صار تيارا جارفا بعد أن كان لا يزيد عن الاستثناء الذى يمكن تحمله واستيعابه. لا أستبعد شخصيا أن أمريكا بمساعدة حلفاء فى أوروبا استخدمت تنظيمات وشخصيات يمينية متطرفة أثناء فترة تدريب جيش أوكرانيا وقياداته السياسية فى العقد الماضى استعدادا لمواجهة مؤكدة مع الجارة الكبيرة. لاحظت أيضا أن أموالا هائلة ساهمت فى وصول الفاشيين إلى حكم إيطاليا، وأن ممثلين عن تيار أمريكى يمينى شديد التطرف موجودون بقوة فى الساحات السياسية الأوروبية، هؤلاء ظهروا بوضوح فى حملة الانتخابات الرئاسية الفرنسية، فضلا عن أن فورة يمينية صارت تجتاح بولندا وإسبانيا وإسكندنافيا والنمسا.
لسنا بعيدين عن آثار تقدم هذا الزحف اليمينى وبخاصة بعد أن وصل إلى إسرائيل. أعتقد أنه سوف يبحث عن خصوم وحلفاء فى العالم العربى. أعتقد أيضا أنه، إذا احتاج، سوف يجد دعما قويا وحماية أكيدة من يمين أوروبا الراهن ويمين أمريكا المتفاقم والقادم للحكم فى غالب الاحتمالات.
الاقتباس
كثيرا ما تجاهلنا احتمال أن تكون للشعوب أمزجة كأمزجة الأفراد تتغير مع الوقت وضغوط الظروف، تتغير مع الحاجة إن مست نمط حياتها. تتغير مع تراكم الإحباط وانحساره ومع تراجع الأمل وعودته. تتغير بطول وشدة ضغوط الإيحاء والمراوغة من جانب صناع السياسة والقرار وأصحاب المصالح الاقتصادية وبخاصة صناعة السلاح ومن جانب قادة الطبقة الدينية.