توقيت القاهرة المحلي 14:49:01 آخر تحديث
  مصر اليوم -

أيام في حياتي لها تاريخ

  مصر اليوم -

أيام في حياتي لها تاريخ

بقلم - جميل مطر

كثير من أيام حياتى لها مغزى أو قيمة أو معنى ولكن لأيام معينة طعم خاص ومحتوى جعلها تقاوم النسيان أو الإهمال لتبقى حاضرة فى الذاكرة، ذاكرتى أو ذاكرة من عاشها معى أو فى ذاكراتينا معا.
من هذه الأيام ذات القيمة يوم ولدت. تكشف ذاكرة الأهل عن حقيقة مهمة ترددت على مسامعى مئات المرات حتى احتلت مكانة وترسخت. توقع الجميع بمن فيهم القابلة أن أولد، مثل خمسة قبلى، ومعى نهايتى. فاجأهم تمسكى بالحياة وإصرارى على أن أخيب توقعاتهم فأعيش. وبالفعل عشت رضيعا ثم طفلا أرتدى الفساتين الملونة وأحمل على رسغى السمين إسورة مرصعة بأحجار زرقاء. عشت شهور الرضاعة وسنوات الطفولة أكاد أكون محمولا طول الوقت فى حضن أو آخر. من هذه الأحضان حضن الجارة مارسيل، الوحيدة التى سمحوا لها باصطحابى فى مشاويرها خارج البيت ومنها مشوار الأحد إلى الكنيسة.
• • •
ومن الأيام أيضا، أيام فى فترة الطفولة المبكرة أقضى بعض ساعات نهارها أطل من كوة داخل إحدى مشربيات البيت على حركة الشارع، شارع أمير الجيوش الجوانى أو بالأحرى شارع النحاسين. من المؤكد أنها تسربت إلى ذاكرتى نقلا عن الجدة جمال والخالات حتى صرت إن سئلت أنقل إلى السامعين صورة حية عن رجال فى جلاليب بيضاء يدخلون إلى الجامع أو يخرجون منه والبعض منهم يتوقف عند عربة البليلة أو عند بائع البطيخ.
• • •
من الأيام، وربما كانت الأجمل، سنوات المراهقة التى قضيتها مع بعض أحلى وأطيب الخلق، شلة شارع سامى. نضجنا معا فى حماية الأهل ورعايتهم لنا. فى الصيف نذهب معهم إلى دور السينما المفتوحة وفى الشتاء يتركوننا نذهب إلى الدور المغلقة فى وسط البلد. فى نهاية هذه المرحلة من المراهقة كنت قد زرت أو خيمت أو عسكرت، أقصد عشت فى معسكرات شبابية كالكشافة والجوالة، أقمناها فى مناطق بعيدة وساحرة كجبال النوبة فى أقصى جنوب السودان وكالصحراء الليبية. هناك فى ليبيا احتفل بنا المنتصر رئيس وزرائها وألقيت أمام حكومته أول خطاب سياسى أعده بنفسى وأكلنا الكسكس والخروف المطمور. أكلتهما مرات فى مرحلة أخرى من أيامى بطعم مختلف فى قصر الملك المغربى وبطعم متغير فى البيوت التونسية. لم تنته مرحلة المراهقة إلا بعد أن تتوجت بحكاية اختطافى مع أربعة من طلاب رحلة كلية التجارة إلى قطاع غزة. اختطفنا المستوطنون الإسرائيليون. قضينا ثلاثة أيام فى سجن بير سبع عاصمة النقب. خرجنا من إسرائيل لنجد فى استقبالنا العقيد محمود رياض رئيس لجنة الهدنة المصرية الإسرائيلية. كان غاضبا.
• • •
ومن أيام شبابى، أو عز شبابى حسب تعبير أهل البلد، أذكر بكل الرضا والحب أوقات نيودلهى العاصمة ودلهى المدينة القديمة. أذكر مواقع راحة واستجمام شباب الدبلوماسيين وبخاصة المقهى الإنجليزى فى وسط العاصمة والنادى الرياضى الاجتماعى «الإنجليزى أيضا» فى الضاحية. هناك فى النادى تعرفت على فتاة فى السابعة عشر من عمرها حضرت مع أبيها. هذه الفتاة صارت بعد شهور خطيبتى ثم زوجتى. إن نسيت فلن أنسى المشعوذ الهندى الذى أوقفنى فى ميدان كونوت الشهير بعد أقل من شهر من وصولى إلى الهند ليبلغنى بلغة إنجليزية متينة نبوءة زواجى وسفرى من الهند لأعود إليها بعد عام ومعى الزوجة وطفل رضيع.
• • •
وأيام فى جليد بكين فى الشتاء ورطوبتها الخانقة فى الصيف قضيتها تحت قيادة رجل فريد فى نوعه اسمه حسن رجب. وطنيته ولغاته وكفاءته لفتت اهتمام القيادة الصينية. تلقيت على يديه بعض أهم دروس حياتى. هناك فى بكين حل النضج ورزقت بطفل وحملتنى ظروف العمل مسئوليات متعددة.
• • •
أيام روما لا تقارن بأيام أخرى فى أى مكان. روما المدينة الساحرة. كان معى بالسفارة نبيل العربى أحد أحب الناس إلى قلبى وأربعة آخرين من خيرة شباب دفعتى فى الخارجية. تلقيت فى روما بعض أهم دروس الحياة وأساليب صنع القرار على يد نجيب هاشم، المربى العظيم والضيف الخلوق على مهنة الدبلوماسية.
• • •
تقدم بى شبابى ونضج فهمى للأمور والناس. عشتها جميعا خلال إقامتى فى سنتياجو عاصمة تشيلى وبيونس آيرس عاصمة الأرجنتين. تعلمت مبادئ اللغة الإسبانية فى دروس امتدت لثلاثة شهور عند قمة جبل صغير يطل على مدينة سنتياجو طلة المحب الحنون. أحببت الشعب والمدينة والنشاط السياسى فيها وتناول الشاى مع جيرانى تحت تكعيبة العنب فى منزلى. شاءت السياسة فى أضيق معانيها أن أنتقل من سنتياجو ولم أمض بها سوى مائة يوم. تصرفت بحكمة. لم أحمل ضغائن ولكن اصطحبت مع عائلتى إلى الأرجنتين بضع ذرات من خيبة أمل. ومع ذلك استمرت دروس الإسبانية وإن متقطعة فى بيونس آيرس وخلال رحلاتى المتكررة إلى أرقى المنتجعات فى القارة اللاتينية، منتجع بونتا ديل إستى فى الأورجواى. أشهد بأن أيام أمريكا اللاتينية كانت مختلفة عن غيرها من أيام عملى فى الدبلوماسية. العمل الدبلوماسى فى أمريكا اللاتينية نزهة يومية. مواعيد العمل مرنة بلا تمييز بين نهار وليل أو بين ساعة وأخرى. هناك يصدق المثل: بلاد لا تمل.
من هناك رحلت إلى مونتريال فى مهمة تأجل تنفيذها مرارا ولم تعد تحتمل تأجيلا آخر. أما المهمة فكانت استئناف ما انقطع من دراساتى العليا. عدت طالبا ظهرت على هيئته وسلوكياته علامات نهاية الشباب. كنت الطالب الثانى فى ترتيب السن من الأكبر إلى الأصغر. كنت محط الفضول فى محيط الدراسة بين أساتذة وطلبة. هذا الوافد من مهنة الدلال والرفاه والنعومة إلى مقاعد الدرس الشاقة والجافة والخشنة. هذه العبارة استخدمها بالفعل فى تقديمى إلى رفاق الصف مايكل بريتشر الأستاذ الأشهر وقتها فى ميدان نظرية العلاقات الدولية وبالتحديد فى مجال صنع القرار فى السياسة الخارجية.
• • •
ومن الجامعة فى مونتريال إلى القاهرة للاشتراك فى تنفيذ صرح علمى وسياسى وصحفى أعتز به إلى يومنا هذا، وهو مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بمؤسسة الأهرام. أيام ممتعة تعلمت فيها الكثير عن مصر وعن الصحافة وعن السياسة كما يمارسها أهل السياسة وعن عملية صنع القرار فى واقع الحال. عشتها أياما لا تنسى مع أحد أعظم الصحافيين فى العصر الحديث، وقد قابلت وصادقت العشرات من كبار الصحافيين حيثما كنت وأينما عملت. كان هيكل بالفعل والتجربة والمعاشرة أعظمهم. أذكر على سبيل الذكر والتذكرة أننا سافرنا ومعنا أغلى الأعزة سميح صادق ومحمد سيد أحمد فى رحلة شهر جبنا خلالها شرق وجنوب آسيا، ورحلة أخرى قمنا بها، هيكل وأنا، امتدت لثلاثة شهور أخذتنا إلى نحو عشرين دولة عربية قابلنا خلالها ملوكا وأمراء ورؤساء وحزبيين ومنفيين ومغتربين وصحافيين، تربطنى ببعضهم إلى اليوم علاقات وثيقة.
• • •
كنت أقترب بسرعة من لحظة منتصف العمر عندما قررت أن أستعيد بعضا من طاقة الشباب استعدادا لاقتحام النصف الثانى من العمر. وبالفعل استعدته وبدأت أعيش أياما لم أعش مثلها من قبل، هى بالتأكيد أحلى وأكثر إمتاعا للعقل وتنوعا. أيام تستحق أن أحكى عنها يوم أتخذ قرارا تأجل اتخاذه سنة بعد سنة ثم عقدا بعد عقد.
اقتربت النهاية ولا متسع فى الوقت لأى تأجيل جديد.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

أيام في حياتي لها تاريخ أيام في حياتي لها تاريخ



GMT 14:59 2024 الثلاثاء ,03 أيلول / سبتمبر

مشاهد مُستَفِزَّة.. “راكبينكم راكبينكم..”!

GMT 06:36 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

… لأي قائمة يسارية ديمقراطية نصوت ؟!

GMT 06:23 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

ماذا قال يمامة؟

GMT 06:16 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

مشكلة إصلاح التعليم

GMT 07:57 2024 الأحد ,21 تموز / يوليو

رصاصة النجاة

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 09:22 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

دراسة تحذر من أن الأسبرين قد يزيد خطر الإصابة بالخرف
  مصر اليوم - دراسة تحذر من أن الأسبرين قد يزيد خطر الإصابة بالخرف

GMT 10:52 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

انطلاق الدورة الثانية من مهرجان الشارقة للسيارات القديمة
  مصر اليوم - انطلاق الدورة الثانية من مهرجان الشارقة للسيارات القديمة

GMT 10:38 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

واتساب يتيح تحويل الرسائل الصوتية إلى نصوص تشمل العربية
  مصر اليوم - واتساب يتيح تحويل الرسائل الصوتية إلى نصوص تشمل العربية

GMT 11:07 2020 الجمعة ,24 كانون الثاني / يناير

سعر الذهب في مصر اليوم الجمعة 24 كانون الثاني يناير 2020

GMT 00:28 2019 الجمعة ,06 كانون الأول / ديسمبر

خالد النبوي يكشف كواليس تدريباته على معارك «ممالك النار»

GMT 14:08 2019 الإثنين ,02 كانون الأول / ديسمبر

أبرز الأحداث اليوميّة لمواليد برج"الحوت" في كانون الأول 2019

GMT 00:09 2019 الأحد ,01 كانون الأول / ديسمبر

ارتدي جاكيت الفرو على طريقة النجمات

GMT 20:08 2019 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الحكومة تصدر 9 قرارات تهم المصريين "إجازات وتعويضات"

GMT 08:01 2019 الأربعاء ,09 تشرين الأول / أكتوبر

عرض فيلم "الفلوس" لتامر حسني أول تشرين الثاني

GMT 08:44 2019 الإثنين ,16 أيلول / سبتمبر

إنجي علي تفاجئ فنانا شهيرا بـ قُبلة أمام زوجته
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon