بقلم - جميل مطر
هذه الأيام أحتفل، وبمعنى دقيق يحتفل بعض الناس، بذكرى انطلاق أول عقد فى عمرى. المناسبة قد لا يهتم بها الكثيرون ولكنها بلا شك تهم قليلين. هؤلاء ساقتهم حظوظهم فى هذه الدنيا إلى أن تجرى فى عروقهم قطرات من دمى أو تشابكت أقدارهم فى مرحلة أو أخرى مع مرحلة أو أخرى من قدرى فعشنا أتأثر ببعض أو كل أحوالهم ويتأثرون ببعض أحوالى أو بكلها.
●●●
من متع الأيام لمن هم فى مثل عمرى ممارسة حريتهم المكتسبة بحكم السن أو بالفرض أو بالمراوغة الذكية والرشيدة. هؤلاء يقضون جانبا من وقتهم، وهو وقت ثمين للغاية، يقارنون أيامهم بعضها بالبعض الآخر. أنا مثلا وقد تقدم بى العمر كثيرا أقضى جانبا من وقتى أقارن باستمتاع بين أيام أعيشها وأيام عشتها وأنا طفل دون العاشرة، أو بين ساعات أعيشها وساعات عشتها وأنا مراهق، أو بين وقت أعيشه وأوقات عشتها وأنا على باب الأربعين أب لمراهقين اثنين وطفلة وزوج لشابة رائعة فى جمالها وصبرها وحكمتها ولم تتجاوز الخامسة والثلاثين فى اللحظة محل المقارنة. رب عائلة هوايته الأكبر التنقل بين المهن والبلاد والثقافات. أرهقها بقرارات السفر والتنقل والعودة فجأة لمقاعد الدراسة وبعدها السفر من جديد. المصير فى عرفه مجهول وفى كل الأحوال لم يكن محل فضوله أو قضية تستحق أن تشغل باله.
أقضى بعض الساعة أقارن بين وقت كنت فى الثمانين، وبين وقتى الراهن وقد رحلت فى سلام إلى عالم آخر شريكة العمر وتجاوز المراهقان الستين من عمرهما وعبرت الطفلة أو كادت تعبر حاجز منتصف العمر. المصير صار معروفا وإن ظلت تفاصيله وعواقبه لا تثير فضولى ولا تشغل نصيبا معتبرا من بالى.
●●●
سلكت فى هذه الحياة مسالك شتى وارتكبت أخطاء كثيرة. لم أندم وقتها وغير نادم الآن. أظن أننى عوضت كل تقصير بإنجاز وكل خطأ بتصحيح نتائجه. أنا اخترت هذه المسالك وبإرادتى الحرة. لا أحمل أحدا وزر ما أخطأت. عشت أختار مسالك صعبة، وأصل إلى محطات لم تكن فى خطة رحلتى. أكثر مسالكى لم يمش فيها آخرون إلا نادرا. احتار الذين علمونى، فالسهل لا أقربه والصعب يجذبنى. لم أدع أحدا إلا نادرا ومجبرا يرسم لى خطوط مشاويرى وحدودها. إن حدث وسلكت طرقا سهلة وممهدة مشيت فيها متمردا ومعاندا حتى إن ضعت وأضعت. لم أمش مرة واحدة بطريقة غير طريقتى ووصلت آمنا أو سعيدا. حاول معى شيخ معمم كان أستاذا وعلامة، وحاول معى مدرس ماركسى كان يعلمنى التاريخ المعاصر، وحاول مدرس للرسم غوايتى لأختار الفن رسما وتمثيلا. كلهم وغيرهم حاولوا وفشلوا. تمسكت بطريقى وطريقتى.
●●●
قيل أضعت فرصا. ظنوا مع كل فرصة ضاعت أننى أخطأت. أنا لم أخطئ. هم أخطأوا. أرادوا أن أبدل طريقتى بطرائقهم.. لن أخسر نفسى لأرضى أحدا. هكذا فكرت وأنا فى الثانية والعشرين عندما تعرضت لضغوط من رئيس كان سفيرا وكنت ملحقا حديث العهد بالبيروقراطية. كتب لرؤسائه كذبا. نبهته بكل أدب واحترام. عوقبت وتلقيت من الرجل الثانى فى السفارة أول درس فى وجوب طاعة الرؤساء حتى وإن كذبوا. لا تخلو حكايتى مع الدبلوماسية على امتداد العقد الذى قضيته فيها من نماذج مختلفة لرؤساء ومرءوسين تعلمت منهم فضائل ومزايا وعشت بينهم بعض أحلى أيامى. إن نسيت فلن أنسى أياما فى بكين عشتها مع نزار قبانى الزميل الذى أحال بكين، العاصمة الأشد كآبة فى ذلك الحين، إلى وظيفة مفيدة. تعلمنا هناك أنه فى أى مكان نذهب إليه خارج الصين سوف نجد السعادة وينتهى الملل.
●●●
ها أنا وقد اقتربت من نهاية رحلتى، حققت فيها ما حققت وسعيد به. بعض ما حققت أراه فى وجوه كثيرة لأفراد جئت بثلاثة منهم وهؤلاء جاءوا بأحفاد والأحفاد بدورهم أضافوا إلى الشجرة ثمارا وجمالا وطول بقاء. أراه أيضا فى سلاسل متصلة وفى الغالب متواصلة من زميلات وزملاء كنت أفخر بزمالتهم والآن أفخر بما حققوه فى حياتهم. أظن أننى غرست فى عدد منهم حبا للحياة وللحب.
لم أبخل عليهم بحكاياتى. حكيت كيف جربتنى الحياة كما جربتها. حكيت كيف علمتنى أن أحبها. أخذتنى مرارا فى رحلات قاسية لأتعرف على معنى فقدها، فقد الحياة. فى إحدى المرات عرضتنى لوابل من رصاص الإسرائيليين خارج غزة ولم أتجاوز السابعة عشرة. وفى المرة التالية ارتطمت بى وعائلتى الصغيرة الطائرة التى كانت تقلنا من هونج كونج مرورا بالهند إلى القاهرة فى طريقنا إلى روما، ارتطمت بأرض مجاورة لممر الهبوط واحترقت. وفى مرة ثالثة ودعت زوجتى وطفلينا وعائلة السفارة فى روما وسلمت نفسى لمجموعة من الأطباء الإيطاليين ليجربوا فى جسمى إجراء عملية جراحية يتخلصون بواسطتها من قرحة فى الإثنى عشر. الطبيب وكان قسا من قبل احترافه الطب أسر لى بعيدا عن عائلتى ولكن فى حضور السفير المصرى بأن العملية خطيرة وأنهم يجرونها لأول مرة وبعدها إن نجحت سوف أعيش لفترة قد تطول بمعدة طفل رضيع. وافقت واعترض السفير طالبا منى السفر إلى لندن لعرض الحالة على أطباء يعرفهم شخصيا. أمام إصرارى صارح السفير أم زوجتى فى الأمر فجزعت وراحت تبحث عن كنيسة لقديسة شهيرة حتى وجدتها فى شارع فينيتو بوسط المدينة واختارت جانبا من درج الكنيسة. جلست وفى يدها نسخة من القرآن ومرتدية أفخر ملابسها تمد يدها إلى زوار الكنيسة من مؤمنين وسياح تتسول نقودا عسى أن تتوسط القديسة لدى الرب فأخرج حيا من جراحة خطيرة. عشت أذكر هذه السيدة بكل خير. أذكر لها بكل الحب والعرفان عندما تدخلت لصالحى عند زوجها يوم تقدمت لأطلب يد الآنسة رفيف وكيف نهرته بلطف عندما سألنى عن مرتبى وإن كان يكفينا إذا تزوجت ابنته.
●●●
جربتنى الحياة وجربنى الحب معها. عشتها أحب. تعلمت الحب فى حضن أمى. رحلت عن دنيانا مبكرا. رحلتها فى الحياة كانت كلها رحلة حب. ورثت عنها طريقتها فى عدم الإعلان عن حبها. قليلة الكلام كانت. كريمة فى تعبيرها الصامت عن حبها، دافئة نظراتها، ناعمة ولكن عميقة لمسات يدها. رحلت مخلفة وراءها ثروة من الحب عشت بعدها أنهل منها حتى اشتد عودى فصرت أنميها وأضيف إليها.
●●●
لعلى أفلحت.