السطور التالية ليست في الشأن الرياضي، بل هى في صميم كل المجالات من أول الولاء والانتماء والتعاون والفهم الصحيح للرياضة نهاية بالإنسانيات.
في الأسبوع الماضي، علمتنا جماهير نادى ليفربول الإنجليزي درساً مهماً في المعنى الحقيقي لممارسة الرياضة. درس كدنا ننساه جميعاً في غالبية أنحاء العالم، التي تتعامل مع المنافسات الرياضية وكأنها معارك حربية ينبغي الفوز فيها جميعاً أو الشعور بالعار، في حالة الهزيمة.
نعلم أن نادي ليفربول خسر بطولة الدوري الإنجليزي بفارق نقطة واحدة عن فريق مانشستر سيتي قبل نحو 4 أسابيع، ثم خسر نهائي دوري أبطال أوروبا أمام نادي ريال مدريد الإسباني في المباراة التي أقيمت في باريس.
المفاجأة التي أسعدت كثيرين هي أن جماهير نادي ليفربول استقبلت فريقها «المهزوم» لدى عودته من باريس صباح الأحد الماضي استقبال الأبطال وكأنهم فازوا بكل بطولات العالم.
بل إنه في أعقاب آخر مباراة لفريق ليفربول، والتي تأكد في نهايتها أنه خسر بطولة الدوري، رأينا الجماهير تحتفل بفريقها وتشجعه وتدعمه، ورأينا اللاعبين ومعهم زوجاتهم وأطفالهم داخل المستطيل الأخضر يحتفلون ويلتقطون الصور ويحيون الجمهور.
هذا المشهد لم يكن حكراً فقط على فريق وجماهير ليفربول، بل رأيناه يتكرر في المباراة النهائية لكل فرق الدوري الإنجليزي والذي فاز به فريق مانشستر سيتي.
وبعد مرور 24 ساعة فقط على خسارة نهائي دوري الأبطال، حظي ليفربول باستقبال أسطوري، ورأينا عشرات الآلاف من مشجعيه يقفون على طريق طوله ثمانية كيلومترات للاحتفال بفريقه الذي فاز ببطولتين هذا العام، هما كأس الاتحاد الإنجليزي وكأس رابطة الأندية المحترفة، إضافة إلى كأس الاتحاد الإنجليزي للسيدات.
الحافلات التي تقل الفريق استغرقت ثلاث ساعات ونصف الساعة للوصول إلى الواجهة البحرية في مدينة ليفربول وسط الأعلام الحمراء، وتجمع اللاعبون على إحدى المراكب لبدء حفل موسيقي، وامتلأت سماء المدينة بالألعاب النارية.
في عالم الرياضة في العالم الثالث والدول النامية، ومنها بعض البلدان العربية، الصورة مختلفة تماماً، إما أن تفوز، وإما أن يتم فضحك وتجريسك، بل ويمكن أن تكون الهزيمة سبباً في السجن وحالات عنف، كما حدث مع لاعب المنتخب الكولومبي اسكوبار على يد مافيا المراهنات عقب تسببه في هزيمة بلاده في نهائيات كأس العالم.
في بعض بلدان منطقتنا يفوز الفريق أو المنتخب الوطني، ويحصد بطولة ما، فتقام الأفراح والليالي الملاح، ويصبح لهذا الفوز ألف أب، لكن حينما ينهزم الفريق، وهو أمر وارد تماماً في عالم الرياضة، تنصب المشانق المعنوية للفريق.
قبل حوالي ثلاثة عقود انهزم فريق عربي، وقيل إنه تم قص شعر رؤوسهم «زيرو» كنوع من العقاب.
الرياضة كما رأيناها في شوارع ليفربول الأسبوع الماضي، هي تطبيق فعلي لمفهوم «الروح الرياضية» والمهزوم يهنئ الفائز.
والأهم أن جمهور الفريق احتفل بفريقه رغم هزيمته في بطولتين مهمتين، لأنه شعر وشاهد وأدرك أن فريقه أدى بشرف وكرامة وجهد حتى اللحظة الأخيرة، ولم يقصر.
شوارع ليفربول عقب عودة الفريق من باريس الأسبوع الماضي، كانت ممتلئة بمشجعي الفريق بصورة غير مسبوقة. سيارة مكشوفة تسير في شوارع المدينة ثم تتجمع الجماهير في إحدى الساحات الرئيسية وتحيط بالفريق وتشجعه بصورة حماسية والأهم بإخلاص وكأنهم كانوا هم الفائزين.
على حافلة ليفربول التي طافت شوارع المدينة، كانت صور نجوم الفريق وفي مقدمتهم النجم المصري العربي محمد صلاح تزين الحافلة، الجماهير احتفلت وحيت نجومها ولم تسبهم أو تشتمهم أو تسخر منهم، ولم تطالب بمعاقبتهم أو تغريمهم أو فسخ التعاقد معهم.
مدرب الفريق الألماني يورجن كلوب هو مدرب من طراز فريد، لكنه يستحق أن يفوز بلقب الأفضل في الأسلوب والحديث والتعامل مع اللاعبين ووسائل الإعلام، هو يتحدث وكأنه فيلسوف أو خبير تنمية بشرية، واستطاع أن يجعل من نفسه صديقاً أو أباً لكل لاعبيه، رغم أنهم محترفون ونجوم عالميون كبار.
كلوب قال كما جاء على موقع «ليفربول إيكو»: «نحن نحتفل بالحياة، نحتفل بهذا الموسم. ونحتفل ببطولة الدوري التي فزنا بها عام 2020. هذا هو أعظم نادي في العالم، خسرنا نهائي دوري الأبطال، وهذا هو الاستقبال الذي تلقيناه من الجماهير اليوم.. يا له من نادٍ. أحب هذا الجمهور».
الرياضة عموماً وكرة القدم خصوصاً يفترض أن هدفها الأساسي هو المنافسة الرياضية وإشاعة التعاون والسلام والتقريب بين الناس والشعوب والأمم، وليس كما يحدث في بعض المناطق تتحول إلى حروب بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، كما حدث في أمريكا اللاتينية من عقود خلت.
ما حدث من جمهور ليفربول تكرر من جماهير أندية كثيرة في إنجلترا، ويحدث في العديد من الأندية الأوروبية، وكل ما نتمناه أن يصبح هذا السلوك هو الشائع في العالم كله، وأن تعود الرياضة لتسمو بالنفوس وتقرب بين الناس، وليست للتفرقة والتعصب والكراهية.
* رئيس تحرير صحيفة الشروق المصرية