ما قيمة الثقافة والتقدم والعلم والتمدن، إذا لم يقترنوا بأن تكون إنسانية عادلة ومؤمنة فعلاً بحقوق الإنسان، وليس فقط مجرد كلام في الهواء؟!
أطرح هذا السؤال، بمناسبة الموقف الصادم للعديد من الدول والمؤسسات في أمريكا وأوروبا مما جرى ويجري من مجازر للجيش الإسرائيلي في قطاع غزة، منذ صباح 7 أكتوبر الماضي، وحتى الآن.
في بدايات الصراع، أعلن معرض فرانكفورت للكتاب، عن دعمه الكامل لإسرائيل في هجومها ضد الشعب الفلسطيني، وإدانته لهجمات حركة «حماس»، وأن هذه الهجمات ضد المبادئ الإنسانية التي ينادي بها معرض فرانكفورت، بل إن المعرض، وحسب رئيسه، يورجن بوس، قرر تخصيص جانب من فعالياته لدعم الأصوات الإسرائيلية، واستضافة بعض الكتاب اليهود للحديث عن الإرهاب ضد إسرائيل، في 23 أكتوبر الماضي.
ولم يكتفِ المعرض بذلك، بل قرر إلغاء تكريم الكاتبة الفلسطينية عدنية شبلي، على روايتها «تفصيل ثانوي»، ومنحها جائزة «ليبراتور»، وبالتالي، لم يكن غريباً أن يقرر اتحاد الناشرين العرب، والعديد من الهيئات والمؤسسات الثقافية العربية، الانسحاب من المشاركة في المعرض.
وبسبب الموقف العربي الموحد، تراجع بوس، وقال في بيان «لقد تأثر الملايين من الأبرياء في إسرائيل وفلسطين بهذه الحرب الرهيبة، وأود أن أؤكد مرة أخرى، أن تعاطفنا معهم جميعاً»، وأن المعرض «لقاء سلمي، يجمع الناس من أنحاء العالم»، وأن حرية التعبير هي العمود الفقري لصناعة النشر لدينا.
طبعاً معرض فرانكفوت واحد من أهم وأقدم المعارض عالمياً، ودورته الأخيرة كانت رقم 75، وهو القبلة الأساسية للناشرين والمؤلفين ووكلاء الأدباء، وهو نموذج للنظام والدقة والاحترافية، والاهتمام بالكتب والمؤلفين.
لكن السؤال، ما قيمة أي شيء، إذا لم يكن عادلاً وإنسانياً، وكيف يمكن معاقبة شعب كامل، وعدم الالتفاف إلى جوهر المشكلة، هو الاحتلال الإسرائيلي للأرض المحتلة، وليس عملية عسكرية، مهما كان الخلاف حولها، أو حتى معارضتها؟.
ويفترض أن دور الثقافة الحقة، هو التقريب بين وجهات النظر، وليس إسكات صوت مقابل إعلاء صوت آخر، وانحيازاً لصوت إسرائيل على حساب صوت فلسطيني، وإعلاء لثقافة إسرائيلية على حساب الثقافة العربية، وهذا ليس دور الثقافة، ثم إن دور الثقافة، هو إعلاء القيم الإنسانية، وتقبُّل الآخر، والمزيد من الاحتفال بالاختلاف بين الآراء، وليس التحيز لرأي واحد.
التعبير عن الانحياز بكل هذا الوضوح، هو أمر غريب، خصوصاً أن هذا المعرض كان له موقف محترم ونزيه بعد أحداث 11 سبتمبر 2011، بل إنه بعد ذلك بثلاث سنوات، احتفل بالثقافة العربية، والتعريف بأن العرب والمسلمين ليسوا إرهابيين، وبعدها جاء معرض لندن وأمريكا، الذي جعل الثقافة العربية ضيف شرف، فما الذي حدث لمعرض فرانكفورت وغيره بعد 7 أكتوبر؟!
نتذكر أنه قبل تفجر الأحداث الأخيرة، فإن الانتقادات الأوروبية المدنية ضد إسرائيل قد زادت، ومنها مثلاً أن 600 أكاديمي هولندي، طالبوا حكومتهم بمقاطعة إسرائيل، وإنصاف الفلسطينيين، وكان ذلك في 28 مايو 2021.
وفي 7 أبريل 2022، أصدرت كلية القانون التابعة لجامعة هارفارد، تقريراً بأن معاملة إسرائيل للفلسطينيين ترمي إلى جريمة الفصل العنصري، وهي كلية القانون الأولى في الولايات المتحدة، والدراسة في 22 صفحة.
الهجوم الإسرائيلي المتواصل على غزة، جعل كثيرين يتساءلون: كيف يمكن أن يكون هناك مثقف أو أديب أو مفكر حقيقي، لا يؤمن بالإنسانية والمساواة بين البشر، ولا يريد أن يرى الفارق الضخم بين الظالم والمظلوم؟!
كيف يمكن لمعرض كتاب دولي ومرموق ومهم، مثل فرانكفورت وغيره، أن يقع في مثل هذا الخطأ الفادح والعنصري؟!
كيف يلغي تكريم أديبة فلسطينية متميزة، لمجرد أنها فلسطينية، رغم أنها بالمناسبة قد تكون مختلفة مع «حماس»؟!
كيف لا يرى معرض فرانكفورت أن هناك احتلالاً غير شرعي، طبقاً للقانون الدولي، للأرض العربية المحتلة في الضفة والجولان، منذ عام 1967، وحصار قاتل لقطاع غزة منذ عام 2005؟.
كنت أتفهم أن يدعو المعرض لإدانة العنف ضد المدنيين، مهما كان مرتكبوها، وإلى تطبيق الشرعية الدولية، بدلاً من الانحياز الفج لسياسة الفصل العنصري، التي تمارسها إسرائيل.
صحيح أن هناك مؤسسات كانت لها مواقف محترمة وإنسانية من الهجوم الأخير، لكن ما فعله معرض فرانكفورت وغيره من المؤسسات الغربية، سقطة خطيرة، تتنافى مع كل ما تدعو إليه الثقافة الحقة، وهو أمر يدعونا لمناقشة حقيقة إيمان الثقافة الغربية بحقوق الإنسان والمساواة وحريات التعبير.