بقلم : عماد الدين حسين
يوم الإثنين الماضى زرت مركز الإمام البخارى الدولى لعلوم الحديث، بمدينة سمرقند فى أوزبكستان، وحينما انتهيت من الزيارة سألت نفسى: كيف وصلنا كعرب ومسلمين إلى درجة عالية جدا من التقدم فى مختلف أنواع العلوم، ثم فجأة هبطنا لنصبح فى ذيل الأمم؟!.
البخارى واسمه الكامل أبو عبدالله محمد بن إسماعيل البخارى (13 شوال 194 هـ ــ 1 شوال 256 هـ) / (20 يوليو 810 م ــ 1 سبتمبر 870 م)، من أهم علماء الحديث عند أهل السنة، وله مصنفات كثيرة، أبرزها بالطبع كتاب الجامع الصحيح، المشهور باسم صحيح البخارى، ويرى غالبية علماء أهل السنة أنه أوثق الكتب الستة الصحيحة، وأمضى البخارى فى جمعه وتصنيفه ستة عشر عاما.
البخارى نشأ يتيما، وطلب العلم منذ صغره، ورحل فى أرجاء العالم الإسلامى للقاء العلماء وطلب الحديث، وسمع من قرابة ألف شيخ، وجمع نحو ستمائة ألف حديث، ولقب بأمير المؤمنين فى الحديث.
المركز أسسه رئيس جمهورية أوزبكستان السابق إسلام كريموف فى ۲٣ مايو سنة ۲٠٠۸، فى ناحية بايرق بمحافظة سمرقند بجوار ضريح الإمام البخارى.
ذهبت إلى هذا المكان يوم الإثنين بصحبة الصديقين محمود مسلم وأحمد المسلمانى، على هامش مشاركتنا فى مراقبة الانتخابات الرئاسية، وقابلنا مدير المركز واسمه براءة من الله أمانوف، وحكى لنا قصة هذا المركز الذى تزيِّن جدرانه لوحات جدارية مرسومة تحكى مراحل مختلفة من حياته، ويشتمل على كل إنتاج البخارى الفكرى بلغات متعددة، وبه العديد من الكتب والمطبوعات النادرة التى تخص الإنتاج العلمى الغزير للبخارى، لكن وحينما سألت مدير المركز عن وجود أى نسخ بخط يد البخارى، قال: لا، لم نعثر على أى شىء.
قلنا لمدير المركز: هل هناك تفكير فى تنقية صحيح البخارى حسما للجدل الذى يثار بشأنه دائما، فقال إن ذلك ليس مطروحا فى الوقت الراهن، والأولوية الآن لتعليم الطلاب وإعداد الأئمة والخطباء، وبعدها يمكن النظر فى الأمر.
هدف المركز الأساسى هو دراسة التراث العلمى للبخارى، ويقدم المركز نشاطه فى مجالين وهما: البحوث العلمية، ثم التنمية المهنية التعليمية للأئمة والخطباء.
فى آخر أيامه دخل البخارى فى امتحان عصيب مع أحد أمراء ذلك الزمان وأُخرج من نيسابور وبخارى، فنزل إحدى قرى سمرقند فمرض فيها وتوفِى بها.
مدير المركز قال لنا: إن الأمير بعث إلى البخارى فى أيامه الأخيرة يطلب منه أكثر من مرة أن يأتى لتعليم أولاده، فكان يرفض بإصرار، ويقول إن العلم للعامة وللناس جميعا ومن يُرد التعلُّم يأتِ إلى العلم، ولا يذهب العلم والعلماء إليهم. وأنه واجه بسبب ذلك غضبا شديدا من الأمير وسلطته فى ذلك الوقت. ومات ولم يدفن فى مسقط رأسه بخارى، وتجرى الآن عمليات ترميم لضريحه الذى يلاصق مركزه العلمى.
أعود للسؤال الذى بدأت به، خصوصا أن أوزبكستان من أكثر الدول مساهمة فى الحضارة الإسلامية، وقدمت رموزا كبيرة فى كل العلوم تقريبا.
هؤلاء العلماء وغيرهم الكثير من كل أنحاء العالم الإسلامى، قدموا للبشرية إسهامات علمية مهمة، وما كان يمكن لأوروبا والغرب أن يعرفوا طريق النهضة التى وصلوا إليها من دون الإسهامات التى قدمها هؤلاء العلماء.
لكن للموضوعية، فإن الغرب صار هو من يقود ويقدم الجانب الأكبر من الإسهام الحضارى. وباستثناءات قليلة فإن من نبغ من العلماء العرب والمسلمين، فلإنه يعيش فى الغرب واستفاد من تقدمه وحرياته.
الوصفة التى بسببها تقدَّمنا أن العلماء العرب والمسلمين فهموا قواعد التقدم جيدا، ولم يكن هناك صدام كبير بين السلطة والعلماء، بل كان هناك تشجيع كبير للعلم والعلماء، خصوصا خلال فترة الخلافة العباسية التى شهدت الازدهار الواسع للحضارة الإسلامية، كانت هناك حرية بحث علمى، وكانت هناك حريات كبيرة سمحت بحرية التفكير، بل وحرية الاعتقاد، ما أدى إلى نهضة فى مجالات عديدة من أول الغناء، نهاية بالطب والفلك والهندسة، مرورا بعلوم القرآن والحديث والفقه.
الصدامات بين السلطة والعلماء كانت موجودة، لكن كان هناك هامش كبير من الحرية سمح للعلماء بالاجتهاد والتفوق، وحينما انتهى هذا المناخ وعادت السلطة لتهيمن وتكفر وتستبد كان السقوط الكبير وبدء التراجع والاضمحلال حتى صرنا ميدانا للحروب والصراعات الأهلية والدينية والطائفية.. ومنتهى أمل غالبية الشعوب الاسلامية هو الهجرة إلى الغرب الذى يحلو للبعض عبثا أن يسميه كافرا!.