مرة أخرى نسأل: ماذا يعنى ارتفاع معدل التضخم، ولماذا تلجأ معظم الدول إلى رفع أسعار الفائدة لمواجهة هذا التضخم؟!
التضخم يعنى فى أبسط تعريفاته وجود أموال كثيرة فى أيدى المواطنين، مقابل سلع قليلة فى السوق، وبالتالى حينما يندفع الناس للشراء، ترتفع أسعار السلع بنسب متزايدة، فماذا تفعل الحكومات والدول عبر البنوك المركزية فى هذه الحالة؟!
أحد الحلول الأساسية هو رفع سعر الفائدة حتى تقنع المواطنين الحائزين للنقود بوضعها فى البنوك مقابل سعر فائدة مرتفع، وبالتالى تقل النقود ويحدث التوازن مرة أخرى، وينخفض التضخم.
لكن بطبيعة الحال فإن التضخم يعنى أيضا من زاوية أخرى «وجود نقود لكن مع عدم وجود سلع» وبالتالى فالحل السحرى لكل المعضلات والمشكلات والأزمات الاقتصادية خصوصا التضخم، هو زيادة الإنتاج خصوصا الزراعى والصناعى وبالتالى زيادة الصادرات وهو ما يعنى بداهة وجود استثمارات محلية وأجنبية، تقود بدورها إلى توافر وزيادة ما تمتلكه أى دولة من العملات الصعبة، التى تعود بدورها إلى التوسع أكثر فى الاستثمار، وخير نموذج على ذلك هو التجربة الصينية وبعض التجارب الآسيوية فى العشرين عاما الماضية.
السؤال الذى يسأله كثيرون، لماذا تضطر غالبية الدول إلى رفع أسعار الفائدة بمجرد أن تفعل أمريكا ذلك؟!
وربما يكون السؤال الأساسى والأول هو: ولماذا لجأت أمريكا من البداية إلى رفع سعر الفائدة فى الأسبوع الماضى للمرة الثانية خلال ثلاثة أشهر، وتنوى رفعها ثمانى مرات خلال ثلاث سنوات لتصل إلى ٣٪ أو أكثر؟!
السبب ببساطة أن أمريكا تشهد تضخما هو الأعلى منذ أربعين عاما، وهو تضخم يضرب العالم كله تقريبا بنسب مختلفة. هذا التضخم له أسباب كثيرة داخلية وخارجية لكل بلد، لكن هناك سببان أساسيان يشترك فيهما كل العالم تقريبا.
فى أوائل عام ٢٠٢٠ ضربت كورونا العالم كله، فأصابته بحالة من الشلل، وتوقفت قطاعات اقتصادية كثيرة عن العمل بسبب الإغلاقات المتكررة، ولذلك اضطرت الدول الغنية إلى توزيع إعانات للفقراء والعاطلين، أو حزم لتحفيز القطاعات الاقتصادية المختلفة، بسبب ذلك صارت هناك نقود كثيرة فى أيدى الناس، لكن من دون وجود إنتاج فى الأسواق.
وحينما بدأت تأثيرات كورونا تقل إلى حد كبير، اندلعت الحرب الروسية الأوكرانية، وتعطلت سلاسل الإمدادات أكثر وزادت أسعار العديد من السلع خصوصا الحبوب، وكذلك ارتفعت أسعار البترول إلى مستويات شبه قياسية، ناهيك عن عودة كورونا مرة أخرى إلى الصين المنتج والمصدر الأكبر فى العالم.
هذه العوامل الرئيسية مع عوامل مختلفة فى كل دولة على حدة قادت إلى مستويات مرتفعة من التضخم أى أموال كثيرة مع إنتاج أقل. فماذا تفعل الدول فى هذه الحالة؟!
الحل الأسهل والمجرب والتقليدى هو رفع أسعار الفائدة كى يتم إغراء الناس بإيداع أموالهم فى البنوك للحصول على نسبة فائدة مرتفعة، بدلا من وجودها فى أيديهم، وهكذا يحدث التوازن فى السوق مرة أخرى.
سعر الفائدة فى أمريكا نحو ١٪ وهو نفس المستوى فى غالبية البنوك الأوروبية، ولهذا السبب فإن كبار المغامرين وصناديق الاستثمار والتقاعد تحصل على قروض دولارية بسعر فائدة مخفض من أمريكا وأوروبا وتقرضه لبنوك الأسواق الناشئة مثل تركيا وجنوب أفريقيا والأرجنتين ومصر وغيرها من الدول، وتغير الدولار إلى العملات الوطنية لهذه الدول وتضعها كودائع لمدد قصيرة من ثلاثة شهور إلى عام، لكى تحصل على سعر الفائدة المرتفع الذى يصل إلى ٢٠٪ أحيانا، وبعد نهاية المدة تحصل على العائد المرتفع، ثم تحصل على دولارتها المضاعفة وتخرج من هذه السوق، وهذه الظاهرة يطلق عليها «الأموال الساخنة»، وهى أحد المصادر الأساسية لتوفير العملات الصعبة للأسواق الناشئة، فى ظل ضعف الاستثمار المباشر وتراجع الصادرات.
وبالتالى فإنه حينما تقوم الولايات المتحدة برفع سعر الفائدة بأى نسبة حتى لو كانت قليلة فإن غالبية هذه الأموال الساخنة تعود إليها حيث الاستقرار وعدم المخاطرة، وبالتالى فإن الأسواق الناشئة تضطر إلى رفع سعر الفائدة بنسبة أكبر حتى تجذب الأموال الساخنة مرة أخرى، إضافة لهدف أساسى وهو القضاء على «الدولرة» بخفض الفائدة على الدولار لأقل مستوى ممكن، وإقناع مواطنيها بوضع أموالهم بالعملة المحلية فى البنوك الوطنية للحفاظ على قيمتها. طبعا هناك أضرار كثيرة لرفع سعر الفائدة أهمها أنها تجعل الناس يفضلون وضع أموالهم كودائع فى البنوك بدلا من استثمارها فى مشروعات وبالتالى توجه ضربة صعبة للاستثمار فى ظل الفائدة المرتفعة على القروض، لكن بالطبع فإن صانع القرار يواجه معضلة كبرى فى الاختيار بين تحقيق أهداف وأولويات عاجلة مختلفة ومتضاربة.
وللحديث بقية..