بقلم : عماد الدين حسين
مشهد تدافع آلاف المواطنين الأفغان لركوب أى طائرة فى مطار كابول والهروب من أفغانسان بأى صورة، حتى لو كان ثمنها الموت، هو أبلغ تعبير عن الخوف من حكم حركة طالبان، لكنها أيضا دليل دامغ على فشل المغامرة الأمريكية فى هذه البلاد، وبرهان جديد على أن زراعة الديمقراطية، بالقوة الجبرية نهايتها الفشل الذريع.
لو أن صور التدافع فى مطار حامة كرازى الدولى فى كابول جاءت فى فيلم سينمائى، لاعتبرها الجميع مجرد خيال مبالغ فيه فى فيلم إثارة أمريكى، لكن حينما شاهدنا هذه الصور بالفعل اكتشفنا أن الواقع يكون أكثر خيالا من الخيال نفسه.
شاهدنا مواطنين أفغان، وبعد أن عجزوا عن الركوب داخل الطائرة، يركبون فوق المحركات والعجلات وأى بروز فى جسم الطائرة، وشاهدنا طائرة تتحرك بالفعل وبعض الركاب يحاولون التعلق بها بأى طريقة، وحينما وصلت إحدى هذه الطائرات إلى الدوحة، تم العثور على بقايا بشرية حول إطاراتها.
كما تم اكتشاف أن أحد لاعبى منتخب الشباب الأفغانى ويدعى زكى نورى وعمره ١٩ عاما، قد لقى مصرعه خلال محاولته الاختباء داخل إحدى الطائرات التى انطلقت من مطار كابول.
مشاهد الذعر والخوف والرعب التى سيطرت على القوات الأمريكية والغربية المنسحبة ومعهم آلاف الأفغان خصوصا «المتعاونين»، أو الخائفين من حكم طالبان، هى دليل لا يقبل الدحض على النهاية المأساوية للاحتلال الأمريكى لأفغانستان، المستمر منذ أكتوبر ٢٠٠١، وهى أيضا أسوأ دعاية ضد حركة طالبان وخوف جزء من مواطنيها منها.
هذه المشاهد تذكرنا بما حدث لقوات الاحتلال الأمريكى لفيتنام، ومشاهد انسحابها المخزى فى عام ١٩٧٥، بفعل المقاومة الفيتنامية المتميزة ضد الاحتلال الأمريكى.
أظن أن الولايات المتحدة وبعد ما حدث فى أفغانستان خلال الأيام الأخيرة، سوف تتوقف مؤقتا عن التدخل الفج والصارخ فى أى دولة، لكنها ستحاول التدخل بطرق أخرى، وربما تستفيد من التجارب البريطانية السابقة فى كيفية التدخل بأقل الأضرار.
وعلى حد التعبير الماركسى الشائع فإن التاريخ حينما يكرر نفسه، فإن المرة الأولى تكون مأساة، وفى المرتبة الثانية تكون ملهاة!
كان كثيرون يعتقدون أن الولايات المتحدة، وبعد الدرس القاسى الذى تعرضت له فى فيتنام، لن تكرر هذه التجربة مرة أخرى، لكنها فعلتها فى أفغانستان عام ٢٠٠١، ثم كررتها فى العراق بعدها بعامين فقط ٢٠٠٣، وفى المرات الثلاث كان الدرس قاسيا، والهزيمة ساحقة ماحقة ومذلة، رغم التدمير والخراب والثمن الفادح جدا الذى دفعته البلدان الثلاثة المحتلة، وما تزال العراق تدفعه، وستظل أفغانستان تدفعه لسنوات، فى حين أن فيتنام استطاعت التعافى بل صارت نموذجا للتطور والتنمية الاقتصادية المتميزة.
طالبان حركة متطرفة ومتزمتة، وتعادى التطور والحداثة ومنغلقة على نفسها، ولذلك حينما تنتصر على كل القوات الأمريكية والأفغانية والأطلسية، فالمعنى الوحيد لذلك، أن الاحتلال الأمريكى لمدة عشرين عاما، فشل فى فهم التركيبة الأفغانية بكل تعقيداتها، التى صارت معروفة للجميع.
الرئيس الأمريكى جو بايدن يحاول بشتى الطرق إقناع شعبه والعالم بأنه اتخذ القرار الصحيح بالانسحاب، وأن الأفغان هم الذين كانوا يفترض أن يدافعوا عن بلادهم، وبغض النظر عن لماذا وصلت الأمور إلى هذه النهاية، فإن المعنى الرئيسى أنه يستحيل زرع الديمقراطية بالقوة أو بالأسلحة الحديثة وقد رأينا حركة كل عناصرها قادمة من عصور سحيقة، تهزم أكبر قوة عسكرية وشاملة فى العالم.
أظن أن التأثيرات الكاملة للسقوط الأمريكى فى أفغانستان لم نرها بعد، لكنها ستظهر تباعا، وقد تدفع المنطقة العربية جزءا كبيرا من هذا الثمن، نتيجة الانكفاء الأمريكى المتوقع، أو ربما يكون الانسحاب مقدمة لتوتير الحدود الأفغانية مع كل من الصين وروسيا، وتهديد طريق الحرير الصينى عبر طالبان وأخواتها.
فى كل الأحوال وبغض النظر عن التطورات المقبلة، فإن صورة أمريكا اهتزت كثيرا، خصوصا فى مشاهد الطائرات فى مطار كابول.