بقلم - عماد الدين حسين
الولايات المتحدة كانت تصنف هيئة تحرير الشام باعتبارها «تنظيما إرهابيا» ورصدت عشرة ملايين دولار لمن يدلى بمعلومات تقود للقبض على زعيمها «أبو محمد الجولانى» أو«أحمد الشرع».
الآن الوفود الأمريكية تتقاطر على دمشق وتلتقى مع الشرع، وأخبرته علنا ورسميا مساء الجمعة الماضى بإلغاء المكافآت المالية المخصصة لمن يدلى بمعلومات تساعد فى القبض عليه.
السؤال: من الذى تغير، هل هى أمريكا أم «هيئة تحرير الشام» وزعيمها أحمد الشرع، أم أن هناك واقعا لا نريد نحن العرب السذج أن نراه؟
قبل محاولة الإجابة نشير إلى أن وفدا أمريكيا رسميا برئاسة مساعدة وزير الخارجية الأمريكية باربرا ليف التقى مع أحمد الشرع وعقدوا معه اجتماعا جيدا حول مستقبل الانتقال السياسى فى البلاد.
ليف قالت إن الشرع أكد للوفد الأمريكى أن الجماعات الإرهابية لن تشكل تهديدا داخل سوريا أو خارجها، وأن إيران لن يكون لها أى دور على الإطلاق ولا ينبغى أن يكون لها أى دور فى سوريا.
وأعلنت ليف أن واشنطن ستقدم الخبرة الفنية وغيرها من أشكال الدعم لسوريا للتعامل مع توثيق جرائم الأسد، وأن القبور الجماعية ستكون أولوية بالنسبة للحكومة الأمريكية.
نعلم أن واشنطن قطعت العلاقات مع سوريا الأسد عام ٢٠١٢، وأغلقت سفارتها مع دمشق منذ ذلك الوقت، ثم صنفت هيئة تحرير الشام كمنظمة إرهابية والجولانى ضمن قوائم الإرهاب عام ٢٠١٣ ثم خصصت مكافأة عشرة ملايين دولار لمن يقدم أى معلومات تقود للقبض عليه.
السؤال مرة أخرى: من الذى تغير وكيف نفهم هذا التناقض الأمريكى؟
ظنى أن بعض العرب السذج فقط هم من كانوا يصدقون أن أمريكا فى حالة تصادم وتناقض مع معظم التنظيمات الإسلامية المتطرفة. من يقرأ العلاقة جيدا سوف يكتشف العديد من الحقائق.
أولا: هيئة تحرير الشام ومنذ أن كانت تابعة لداعش ثم للقاعدة ثم غيرت اسمها إلى النصرة، كانت تحت سمع وبصر أمريكا وقواتها الموجودة فى أكثر من موقع بسوريا والمنطقة.
أمريكا كان يمكنها القبض على الجولانى وقصف قواته، لكنها لم تفعل طوال سنوات، لأنه كان باختصار يقاتل قوات نظام بشار الأسد وإيران وروسيا، وبالتالى فهو كان يحقق مصلحة أمريكية وإسرائيلية وغربية.
حينما سقط نظام الأسد، وصار أحمد الشرع هو صاحب السلطة، فقد تغيرت الصورة تماما وبدأت أمريكا ومعها أوروبا تغازله علنا ورأينا عشرات الوفود الغربية تتقاطر على دمشق وتلتقى مع من تصنفهم إرهابيين.
مرة أخرى: كيف يمكن تفسير ذلك؟
التفسير الأساسى هو أن العقل الأمريكى الغربى عقل عملى براجماتى نفعى ويمكن أن يتغير حسب مصلحته، وبالتالى ليس جامدا كغالبية العقول العربية.
ثانيا: ظنى الشخصى أن السياسة الأمريكية لم تكن فى حالة تصادم إطلاقا مع هيئة تنظيم أو تحرير الشامل منذ سنوات، بل كانت تدعى ذلك، وحتى العلاقة مع تنظيم داعش لم تكن عدائية إلا فى الشكل فقط، حتى لو كانت أمريكا تعلن كل بضعة شهور اغتيال من تسميه بقائد داعش فى المنطقة!
أمريكا تقول إن سبب وجود قواتها فى سوريا والعراق هو محاربة داعش. فإذا قضت على داعش فيعنى ذلك نهاية سبب وجود هذه القوات، وبالتالى فلن يكون من مصلحة أمريكا أبدا نهاية داعش والاستخلاص النهائى من وجهة نظرى أن داعش وأمثاله أداة أمريكية لابتزاز المنطقة بأكملها.
نتذكر أن الولايات المتحدة هى التى طلبت من قطر افتتاح مقرات لحركتى حماس وطالبان فى الدوحة قبل سنوات، حتى يمكنها أن تتحدث وتتفاوض معهم من وراء حجاب، وكان البعض يعتقد واهما أن الحكومة القطرية هى التى فعلت ذلك من تلقاء نفسها.
من يقرأ تاريخ المنطقة فى العقود الأخيرة سيكتشف العلاقة الوظيفية الوطيدة بين الولايات المتحدة، وغالبية حركات التمرد فى المنطقة العربية، خصوصا ذات التوجه الدينى، بل يشمل ذلك أيضا دول الساحل والصحراء الإفريقية. ومن لا يصدق عليه أن يقرأ خريطة تحركات ما يسمى بالتنظيمات الجهادية ضد الدول التى تعارض السياسة الأمريكية.
الطريف أن الوفد الأمريكى الذى التقى أحمد الشرع فى دمشق يوم الجمعة الماضى رفض أن يكون اللقاء فى القصر الجمهورى ورفضوا كذلك التقاط صور فوتوغوافية.
أغلب الظن أن الشرع أراد هذه الصورة باعتبارها اعترافا أمريكيا رسميا لكن واشنطن لا تزال تعتبر نفسها فى حالة زواج عرفى مع الإدارة الجديدة فى انتظار تنفيذ طلباتها.
السؤال: إلى متى سيترك العرب سوريا تتقاذفها المصالح الأمريكية والإسرائيلية والتركية، وهل سيكررون السيناريو الذى فعلوه مع العراق بعد الغزو الأمريكى عام ٢٠٠٣؟!