بقلم - د. محمود خليل
فى السادسة والنصف من صباح أمس الأول السبت الموافق السابع من أكتوبر ٢٠٢٣، والذى يناسب عيد العرش اليهودى بالتقويم العبرى، اقتحم مقاومون فلسطينيون الحدود والسياج الفاصل مع أرض ١٩٤٨، وفاجأوا إسرائيل بعملية لم تتخيلها فى أشد كوابيسها قتامة، بما يذكرنا جزئيا بالهزيمة المنكرة التى تلقاها الجيش الإسرائيلى من الجيشين المصرى والسورى قبل ٥٠ عاما كاملة زائد يوم فى السادس من أكتوبر 1973.
الاقتحام الفلسطينى تم عبر ٤ محاور أحدها من كرم أبو سالم قرب الحدود المصرية الفلسطينية الإسرائيلية، إضافة إلى ٣ محاور حدودية أخرى على طول الحدود البالغة 37 كيلومترا. والغريب أن الاقتحام تم بواسطة دراجات نارية وموتوسيكلات وسيارات دفع رباعى بل وترجل المقاومين، وهى وسائل شديدة البدائية، لكن المفاجأة الكبيرة أنها فاجأت المحتل.
أظن أن أى إسرائيلى وبسبب غرور القوة لم يتخيل فى أى لحظة أن يقتحم الفلسطينيون مستوطنات غلاف غزة بهذه القوة والجرأة والشجاعة والإقدام والفروسية والبسالة.
غرور القوة خيل للإسرائيليين أنهم يمكنهم النوم فى أسرة مستوطناتهم ووحداتهم العسكرية آمنين مطمئنين من دون خوف أو وجل، لأنه لا يعقل بداهة أن تقوم مجموعة من المقاومين مهما كان تسليحهم باقتحام المستوطنات والمواقع العسكرية فى أرض 48.
كنا نظن أن المستوطنات محصنة تماما، والمواقع العسكرية منيعة جدا، حتى تفاجأنا بأن المقاومين الفلسطينيين دخلوها بالموتوسيكلات وسيارات الدفع الرباعى وكأنهم يدخلون أحد المولات التجارية أو الأسواق الشعبية بل سيرا على الأقدام.
اعتقد الإسرائيليون أن نظام الدفاع الصاروخى «القبة الحديدية» يحمى إسرائيل من أى صواريخ، لكن الذى حدث أن أكثر من خمسة آلاف صاروخ تقريبا انطلقت من غزة صباح السبت، واخترق بعضها نظام القبة الحديدية، بل إن بالونات طائرة ومسيرات فلسطينية نجحت فى اقتحام السماوات المحصنة وأصابت أهدافها وسط دهشة الجميع، وحيدت مطارى تل أبيب واللد وعطلتهما عن العمل. وكان ملفتا للنظر مشهد المقاومين وهم يستقلون البالونات الطائرة حاملين أسلحتهم الرشاشة كاشفين عن وجوههم مقبلين على النصر أو الشهادة عاكسين ومخالفين لقصة انتصار دواد على جوليات.
المقاومة خططت بذكاء ودهاء ودقة وكفاءة وانضباط، وفاجأت العدو الذى اعتقد أن الأمر كله يتركز فى الهجوم صاروخى، ولم ينتبه إلى أن ذلك كان للتغطية على الاقتحام البرى، وبالتالى فإن ما حدث يوم السبت هو أكبر عملية تمويه وخداع وتضليل يقع فيها الجيش الإسرائيلى منذ التمويه الأكبر فى ٦ أكتوبر ١٩٧٣.
عملية يوم السبت تؤكد أن أى جيش مهما كان قويا ويملك أحدث أنواع الأسلحة لا يمكنه أن يظل فى حال استعداد وطوارئ طوال الوقت. لكن الأهم هو أن أى قوة ومهما كانت ضعيفة عدديا مقارنة بالعدو المدجج بالسلاح يمكنها فى مرات كثيرة أن توجه إليه ضربات قاتلة ومميتة من حيث لا يتوقع. وهو الأمر الذى حدث مرارا وتكرارا فى السنوات الماضية، لكن عملية يوم السبت الماضى وهى أول قتال على أرض فلسطين التاريخية منذ عام ١٩٤٨ كانت مختلفة تماما فى العديد من الأوجه خصوصا فى التوقيت فهى تأتى بعد ٥٠ عاما كاملة من حرب أكتوبر المجيدة وقلدتها جزئيا فى فكرة التموية والخداع الاستراتيجى.
المفاجآت يوم السبت كانت كثيرة ومتعددة. حينما كان أى فدائى فلسطينى ينفذ عملية للمقاومة ويتمكن من قتل أو إصابة جندى أو مستوطن، كان معظمنا يهلل له ويتعامل معه باعتباره بطلا وهو كذلك بالفعل. وشخصيا لم أتخيل أن يتمكن المقاومون من اجتياز الحدود ودخول المواقع والمستوطنات والاشتباك وإلحاق خسائر فادحة بالإسرائيليين.
وحينما قرأت خبرا مصدره وسائل الإعلام الإسرائيلية بأن المقاومين تمكنوا من السيطرة على أربع مستوطنات إسرائيلية طوال يوم السبت الماضى وقتلوا أكثر من 600 إسرائيلى وأصابوا الآلاف وأسروا المئات، لم أصدق عيونى بل ظننت أننى فى حلم سرمدى جميل.
الدروس مما حدث يوم السبت الماضى كثيرة ومتنوعة وسوف تحتاج إلى الكثير من القراءة والتحليل، لكن فى ظنى أن أهم درس هو أن هزيمة إسرائيل ليست أمرا مستحيلا، بل أمر مقدور عليه تماما فى أى زمان ومكان وتحت أى ظروف سياسية أو غير سياسية وهذا ليس تحليلى الشخصى بل استمعت إليه من العديد من الخبراء والمحللين طوال ال 48 ساعة الماضية ليلة.
قبل خمسين عاما هدم الجيش المصرى نظرية الجيش الذى لا يقهر وعبر القناة وحقق المعجزة العسكرية الكبرى، وبعد خمسين عاما بالتمام والكمال أكد المقاومون الفلسطينيون أن هزيمة إسرائيل وتحرير فلسطين ليس أمرا مستحيلا.