قولا واحدا لا يمكن الحديث عن استقرار أية دولة بالعالم وتقدمها أو توقع وتمنى وجود ديمقراطية وتعددية فيها، إذا لم يكن بها جيش وطنى موحد تحت قيادة واحدة خاضعة للقانون والدستور والقيادة السياسية والمدنية للدولة.
ما يحدث فى المنطقة العربية خصوصا منذ ثورات الربيع العربى عام ٢٠١١، يؤكد بوضوح أن كل التجارب لاستنساخ جيوش خاصة مصغرة تنتهى إلى كارثة محققة.
البدايات تكون دائما براقة وعاطفية، ونعرف أن المبرر السهل دائما لاستنساخ هذه الجيوش المنافسة هو التصدى لإسرائيل، ورأينا العديد من النماذج التى قالت إنها تأسست فقط لمواجهة العدو الحقيقى ثم نكتشف فى النهاية تحول هذا السلاح وتلك الميليشيات إلى التدخل فى الشئون الداخلية للدولة. ومحاولة التأثير على سياساتها لمصلحة هذه الميليشيا أو من يمولها.
وقد رأينا مثلا فى مصر جماعة إرهابية تطلق على نفسها «أنصار بيت المقدس»، والغريب أنها لم تطلق رصاصة واحدة لتخليص بيت المقدس من الاحتلال الصهيونى فى حين وجهت كل رصاصاتها وأسلحتها الغادرة باتجاه صدور جنود وضباط الشرطة والجيش والعديد من المواطنين المصريين الأبرياء.
الخطأ الأكبر يكون دائما بالسماح بنشأة هذه الميليشيات حتى لو كانت المبررات منطقية وموضوعية وقتها.
ونتذكر أن «الحشد الشعبى» فى العراق لعب دورا مهما فى مساعدة الجيش العراقى فى التصدى لإرهاب تنظيم داعش حينما استولى على حوالى نصف البلاد تقريبا منتصف عام ٢٠١٤، لكن وبعد دحر داعش وبقية التنظيمات الإرهابية، لم يتفكك هذا التنظيم وصار يحاول فرض وصايته على الدولة والمجتمع.
وفى ليبيا رأينا الميليشيات فى بدايات الصراع ضد نظام معمر القذافى، لكن وبعد سقوط هذا النظام نهاية عام ٢٠١١، لم تتفكك هذه الميليشيات وتندمج فى الجيش، بل رأيناها تتحول لشوكة فى ظهر ليبيا، وتؤثر فى مجريات السياسة الليبية، والأخطر أن مصالحها الفئوية العنيفة صارت تتقاطع مع المصالح العليا للشعب الليبى، وبعضها يتآمر على ليبيا مع قوى وأجهزة ودول أجنبية.
وبالطبع غنى عن القول التجربة الصومالية، وقبلها التجربة اللبنانية، وبينهما المأساة الأفغانية.
كل هذه التجارب السابقة واللاحقة، تقول إنه فى اللحظة التى تتكون فيها الميليشيات، وتزيد أدوارها وصلاحياتها ونفوذها وسلطتها يكون ذلك خصما بالضرورة من الدولة، وليس دعما لها.
نتذكر أن أول ما فعله الاحتلال الأمريكى للعراق عام ٢٠٠٣ هو حل الجيش العراقى، وكان ذلك أحد الأسباب الأساسية لظهور تنظيمات متطرفة كان عمادها الأساسى هو بعض أفراد هذا الجيش مما قوى شوكتها، وجعلها تسيطر على مناطق واسعة قادت تلاحقا لنشأة الحشد الشعبى كى يتصدى لها!!.
وبطبيعة الحال فإن الصدام يكون آتيا لا محالة بين الطرفين، وكل طرف سيزعم أنه البرىء وأنه لم يطلق الرصاصة الأولى. المشكلة الحقيقية تتركز فى أن الميليشيات وقادتها لا يريدون أن يعودوا مجرد أفراد فى الجيش الأكبر، بل استمرار السيطرة على المناصب والمكاسب والمميزات والفوائد والسلطة التى حصلوا عليها، وبالتالى لا يمانعون أن يدمروا بلدهم بالكامل إذا كان ذلك ضروريا لاستمرار هيمنتهم.
وحينما يحدث الصدام فإن الدولة تتحول إلى نموذج للدولة الفاشلة الهشة، وتصبح عرضة لتدخل كل القوى الإقليمية والدولية، التى غالبا ما تزيد الصراع اشتعالا بسبب مطامعها المتناقضة داخل هذا البلد أو ذاك.
ونتذكر أيضا أن جماعة الإخوان أعلنت أنها وعلى لسان أحد قادتها وهو صلاح سلطان عن النية لتأسيس «جيش القدس» لمواجهة إسرائيل خلال عام حكم الإخوان، «يونية ٢٠١٢ يونية ٢٠١٣»، ولولا ثورة ٣٠ يونية لربما دخلت مصر مثل هذه المصيدة الجهنمية. كما نتذكر أن أحد قادة «الجماعة الإسلامية» أعلن فى نفس الفترة أنه ينبغى تأسيس شرطة موازية.
حينما يحدث كل ذلك وتأتى لحظة الصدام المحتومة فإنه لا يكون هناك طرف منتصر وآخر مهزوم. الكل خاسرون والكاسب الوحيد هو أعداء هذا البلد وأولهم إسرائيل.
والشعب يجد نفسه مقسما بين هذا وذاك. والرؤى تكون غائمة وغير واضحة، خصوصا حينما يزعم كل طرف أنه فى جانب الحق والخير ولا يريد الاعتراف بأن أصل الصراع يدور حول مكاسب ومناصب ومطامع شخصية وفئوية وطائفية وعرقية وليست وطنية أو قومية.
حفظ الله الأمة العربية من كل سوء، وحفظ الله السودان وشعبه وأرضه وجيشه وكل مكوناته. وقاتل الله كل الميليشيات وقادتها، فهم أحد أسباب نكبة هذه الأمة.