بقلم - عماد الدين حسين
تحدثت بالأمس عما شاهدته فى حفل توقيع كتاب «وسط البلد» ما وراء الحكايات، الصادر عن دار الشروق وشركة الإسماعيلية للاستثمار العقارى. واليوم أتحدث عن مضمون هذا الكتاب المصور البديع.
فى مقدمة الكتاب هناك كلمة لشركة الإسماعيلية جاء فيها ما يلى: «يكمن الكثير من سحر وسط البلد فى اللفتات العابرة التى تجتذب العين على حين غرة نحو شوارعها المتعرجة وفناءاتها الخفية التى تعرض بهاء ١٥٠ سنة من المعمار الخلاب، أينما كنت، الماضى هو الحاضر دائما لأنه فى وسط البلد ربما أكثر من أى مكان آخر فى مصر كلها يتسيد التاريخ وعبقه الموقف.
وهذا الكتاب كما تقول الشركة «إهداء يفيض بالحنين إلى أيام مصر الذهبية، وبعث من جديد فى هيئة عشرات القصص الساحرة لكل من يرغب فى الغوص فى الطبقات الأخاذة التى يتألف منها النسيج العمرانى للقاهرة كما نعرفها اليوم».
الشركة تخاطب القارئ بقولها: «انضم إلينا فى احتفالنا بوسط البلد بماضيها الجميل، وحاضرها المفعم بالحياة ومستقبلها الواعد، وتعال معنا فى رحلة عبر الأماكن والوجوه والتركيبة التى يتألف منها هذا الحى المركزى، إنها قصة مبهرة نتوق إلى تقاسمها مع الناس على اختلاف مشاريعهم».
وفى تقديم كريم شافعى الشريك والمؤسس لمجلس إدارة شركة الإسماعيلية يقول إنه لا يمكن للمرء أن يتذوق الفن من دون أن يكون مجنونا بوسط البلد، فكيف يمكن أن تفصل الفن عن الحياة هنا، فوسط البلد هى هوية مصر الأكثر جلاء، وهى المكان الذى تنطمس فيه الخطوط، حيث لا يمكنك التفريق بين الماضى والحاضر، ويمتزج الاثنان ليصبحا معا هذا الفنان المفتون.
يقول شافعى: «لا تحمل اللافتة على واجهة المحل اسمه وحسب بل إنها تعبير فنى وعلامة فى التاريخ وانعكاس لرحلة القاهرة عبر الزمن، الدرج المتداعى تحفة فنية، كل شىء صغير هو شهادة على عقود من الحياة وآلاف الخطوات وعشرات الحيوات التى يستمر بعضها، بينما طوى الغياب بعضها الآخر. لا يوجد ما يمثل روح وسط البلد أكثر من التباين الفوضوى بين الماضى والحاضر والمستقبل».
شافعى يقول إنه للاحتفاء بهذا المشهد الأيقونى لوسط البلد تم التعاون مع ثلاثة من أكثر المصورين موهبة فى المجال والمعروفين بشغفهم بالمنطقة، وكل واحد منهم ينظر لتجربة وسط البلد من زاوية مختلفة، كريم حسين يلتقط صورا لناس وسط البلد خاصة الأكبر سنا الذين عاصروا تغيير المشهد. وبيلو حسين تصور المسارح والسينمات القديمة المنسية ذات المعمار الاستثنائى، ويحيى العلايلى يوثق المطاعم القديمة والجديدة وكذلك أماكن الخروج والتنزه فى وسط البلد.
يبدأ الكتاب بأنشودة لافينواز وهى أحدث جواهر وسط البلد من تصوير يحيى الحصفى بمناسبة إعادة افتتاح لافينواز على يد شركة الإسماعيلية فى مايو ٢٠١٨، ويصعب وصف جمال الصور بالكلمات، بل تحتاج أن يراها كل شخص بعينه مباشرة، وكل صورة فيها تجعلك تعود إلى هذه الأيام الخوالى لوسط البلد.
فى الفصل الثانى وتحت عنوان «حراس وسط البلد» تصوير كريم الحيوان، نقرأ لسيد محمود كلاما شيقا وكيف أن التغييرات التى حدثت بداية من السبعينيات بدت جاهزة لتنزع من القاهرة أغلى هبات تاريخها الممتد، وهو هبة التعددية. يسرد سيد محمود المراحل التى مرت بها القاهرة فى العقود الأخيرة، خصوصا عملية التزييف، ثم الخروج المنهجى للأجانب، والأقليات المتمصرة، ثم جاء النمو السكانى ليؤثر على سلوكيات الناس، وإحساسهم بالمكان، خصوصا فى المنطقة التجارية المركزية بوسط البلد. وهكذا فشلت المنطقة فى الحفاظ على معالمها المعمارية، ورغم محاولات الإنقاذ كانت هناك فجوة حقيقية قد تكونت بين قيم المدينة التقليدية وحاضرها، وهنا بدأت تظهر مجموعة من المقاومين الذين رفضوا التخلى عن مدينتهم وظلوا حراسا لهويتها القديمة، ولعبوا دور الشاهد على وقائع الهدم وقاوموا زوال النعمة، وسعوا لبناء قاعدة عريضة من المعرفة بشئون القاهرة وإحياء إحساس الحنين القديم تجاه المدينة والإنصات إلى إيقاعها السابق.
هم نسجوا أساطير جديدة حول مدينتهم وبعضهم يؤمن أن الاستمرار فى العيش فى وسط البلد نوع من الصمود الضرورى حتى تظل القاهرة درة تاج المدن وملكا لأولئك الذين يقدرونها وعلى استعداد لحمايتها من الاندثار.
إنهم يقضون ساعات فى تذكر الماضى وربما يحاولون تثبيته فى صورة أو إطار أو ربما يلمسونه فى عناصر معمارة متفاوتة القيمة، لكن الهدف الأسمى هو إحياء الماضى والتحاور معه بطرق مختلفة. رحلتهم بدأت بقراءة الوجوه واستحضار الجمال العابر الذى يضىء الوجوه والظلال محتفظين بـ«العين البكر».
غدا، إن شاء الله، الجزء الأخير من هذا الكتاب المهم.