بقلم - عماد الدين حسين
هذا هو الجزء الثالث والأخير من عرض ومناقشة كتاب «الفيلق المصرى» للدكتور محمد أبوالغار والذى سيصدر خلال أيام عن دار الشروق.
والنقطة البارزة فى هذا الجزء هى النصب التذكارى للعمال والفلاحين الذين قتلوا أو ماتوا فى هذا الفيلق وهو النصب الذى عثر عليه الدكتور أبوالغار بالصدفة وعبرالـGPS.
الحكومة البريطانية والمؤرخون الإنجليز لم يقدروا الدور المهم الذى لعبه الفيلق المصرى. وكانت النظرة الشائعة أن دور مصر هو مجرد إنتاج المواد الخام وبالذات القطن، ولولا الذاكرة الشعبية التى احتفظت ببعض القصص المتناثرة عن هذا الفيلق ما عرف به أحد. ونخص بالذكر هنا دور سيد درويش بالموسيقى ونجيب محفوظ فى رواية بين القصرين وأحمد بدرخان فى فيلم «سيد درويش»، والمفكر عصمت سيف الدولة فى (مذكرات قرية)، لكن الكتب الرسمية والأكاديمية لم تسجل ذلك.
الملاحظة الموضوعية أن قائد الحملة البريطانية فى سيناء وفلسطين الجنرال اللنبى قال إن المصريين عملوا ليل نهار وأنجزوا أعمالا عظيمة، وتمتعوا بالشجاعة فى مواجهة جميع الأخطار، بل وأكد أن الفيلق المصرى كان سببا أساسيا فى التقدم السريع للقوات البريطانية، كما أن السلطان حسين كامل منح بعض عناصر الفيلق المصرى ميداليات لشجاعتهم.
أحد المصادر الأساسية التى اعتمد عليها د. أبوالغار فى كتابه هو ضابط إنجليزى كان مسئولا عن مائة فلاح مصرى. هذا الضابط كان يدون يومياته ومذكراته، إضافة إلى الخطابات التى كان يرسلها لأمه وأخواته، وبالتالى حكى هذا الضابط عن علاقته مع الفلاحين المصريين. وكما يقول أبوالغار خلال حديثه فى دار الشروق مع المهندس إبراهيم المعلم والعديد من ضيوف الدار مثل، الروائى أحمد صبرى أبوالفتوح وإيمان يحيى وسيد محمود ومحمد الشماع، إضافة إلى أميرة أبوالمجد، فإن المؤرخ خالد فهمى هو الذى دله على مذكرات هذا الضابط وأنها متاحة بالفعل فى متحف الحرب فى لندن. وبالفعل سافر أبوالغار إلى هناك، واطلع على الخطابات وصورها كاملة، واستفاد منها كثيرا، رغم أن الكتابة كانت قديمة جدا.
يقول أبوالغار إن هناك هيئة بريطانية تم إنشاؤها قبل مائتى عام مهمتها توثيق وتسجيل أسماء من توفوا فى الحروب وعمل مدافن تليق بهم، لا فرق بين ضابط كبير وجندى صغير، وهى تابعة لرئيس الوزراء.
هذه الهيئة جاءت إلى مصر قبل نحو مائة عام فى عشرينيات القرن الماضى، وبحثت مع الحكومة المصرية عمل نصب تذكارى للمصريين الذين شاركوا فى الحرب، وكان النقاش حول طريقة التكريم وهل يتم بناء مسجد كما طلبت الحكومة المصرية، لكن فى النهاية تم الاتفاق على بناء نصب تذكارى لمن ماتوا من المصريين.
المفارقة أنه كان هناك طبيب إنجليزى يقوم بعمل أبحاث طبية فى محافظة أسيوط وهو الذى توصل إلى اكتشاف مرض التراكوما.
هذا الطبيب طلب نقله للقاهرة ليواصل أبحاثه، وحينما انتهت الحرب، انتقل الطبيب للقاهرة وساهم فى إنشاء مستشفى فى الجيزة لأبحاث العيون والرمد، وهو المستشفى الذى ما يزال قائما حتى الآن على نيل الجيزة قرب الميدان، وتم إقامة تمثال النصب التذكارى للجنود المصريين الذين توفوا فى هذه الحرب فى مبنى مجاور لمستشفى الرمد.
الطريف أن الدكتور أبوالغار سأل كثيرا وبحث عن مكان هذا النصب، دون جدوى وفى النهاية بحث عبر نظام المواقع والخرائط الـGPS الذى أشار إلى مكان قرب مستشفى الرمد، وحينما وصل إلى هناك لم يجد إلا المستشفى، ومستشفى آخر صغير للعيون بجواره. وبعدها تواصل مع أحد الأطباء داخل المستشفى، فأخبره بالفعل أن هناك نصبا تذكاريا لم يقربه أحد من العاملين بالمستشفى منذ ٥٠ عاما.
لكن قد يسأل البعض وما الذى نستفيده من آثاره مثل الموضوع بعد مرور أكثر من مائة عام عليه؟!
الإجابة ببساطة أننا يجب أن نعرف تاريخنا سواء كان إيجابيا أو سلبيا، وأن يدرك الجميع خصوصا أجيال الشباب أنه لا يوجد احتلال جيد واحتلال سيئ، الاحتلال دائما سيئ، حتى لو ادعى أنه الأكثر تحضرا ورقيا وتقدما. نعم قد يكون هناك أفراد من الاحتلال أكثر إنسانية مثل الطبيب الذى اكتشف علاج التراكوما أو بنى النصب، لكن الصورة العامة لأى احتلال قاتمة ويكفى أنها تسلب حرية واستقلال وكرامة بلد بأكمله.
يستحق الدكتور محمد أبوالغار الشكر الجزيل لإنجازه هذا الكتاب المهم، وكتب أخرى كثيرة خصوصا علاقة أمريكا بثورة ١٩١٩، وقصة اليهود فى مصر، وجميعها صادرة عن دار الشروق. مثل هذه الكتب شديدة الأهمية لأنها تروى لشبابنا وأجيالنا الجديدة تاريخ أبنائهم وأجدادهم وكفاحهم من أجل الحرية والاستقلال والتقدم.