بقلم - عماد الدين حسين
«عندما يقع الإنسان فى مستنقع أفكاره، فينتهى به الأمر إلى المهزلة» العبارة السابقة عنوان لأطول اسم فيلم مصرى، تم عرضه فى ٥ أبريل ٢٠١٧ بطولة بيومى فؤاد ومحمد ثروت وأحمد فتحى. ولا أعرف لماذا تذكرت عنوان هذا الفيلم حينما قرأت أن إسرائيل عرضت التوسط لوقف إطلاق النار فى السودان.
وحينما قرأت الخبر وتفاصيله، فلم أعرف هل من الموضوعية أن أتهم إسرائيل وقادتها بالعبث، أم أننا كعرب وصلنا إلى أقصى درجات الحضيض والعبث، بحيث إن إسرائيل تتبجح وتعلن أنها تتوسط لإيقاف الحرب السودانية؟!!.
تفاصيل هذا الخبر الصادم أن وزير الخارجية الإسرائيلى إيلى كوهين أعلن حسب وكالة رويترز أن إسرائيل عرضت على قائد الجيش السودانى عبدالفتاح البرهان وقائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو «حميدتى» استضافة محادثات بينهما لوقف إطلاق النار، وأن التقدم الذى تم إحرازه بشأن هذه الوساطة مع الجانبين واعد جدا».
موقع أكسيوس الأمريكى نقل أيضا عن ثلاثة مسئولين إسرائيلين أنهم قدموا الاقتراح إلى البرهان وحميدتى عبر مكالمات منفصلة معهما، وأن الجنرالين لم يستبعدا الاقتراح وأعطيا الانطباع بأن كليهما يفكر فيه بإيجابية، وأن إسرائيل نسقت هذه الجهود مع الإدارة الأمريكية وبعض دول المنطقة.
وحينما يتأمل أى عربى عاقل ما الذى تغير فى المنطقة منذ يونية ١٩٦٧ وحتى اندلاع الحرب السودانية الأخيرة سيدرك إلى أى هاوية انحدرت هذه الأمة العربية!
بعد هزيمة ٥ يونية ١٩٦٧ استضافت العاصمة السودانية الخرطوم فى 29 أغسطس من الشهر نفسه «قمة اللاءات الثلاثة» الشهيرة أى «لا صلح ولا تفاوض ولا اعتراف».
«مع إسرائيل»، ونعرف أن السودان من الذين ساندوا مصر فى حروبها، وظل من الدول الرافضة للتطبيع مع إسرائيل، لكنه فعل ذلك فى ٢٣ أكتوبر ٢٠٢٠، واتفقا على إقامة علاقات اقتصادية وتجارية وزراعية، وفى نفس اليوم وقع الرئيس الأمريكى السابق دونالد ترامب على إزالة اسم السودان من قائمة الإرهاب. وسبق ذلك فى فبراير ٢٠٢٠ لقاء رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو مع رئيس مجلس السيادة السودانى عبدالفتاح البرهان فى العاصمة الأوغندية كمبالا، واتفقا على بدء تطبيع العلاقات، وسمحت السودان للطائرات الإسرائيلية بالتحليق فى أجوائها.
والمعتقد أن السودان تواصل سرا مع إسرائيل قبل هذا التاريخ، عبر أيوب قرا وزير التعاون الإقليمى الإسرائيلى. ونتذكر أن وزير خارجية عمر البشير إبراهيم الغندور طرح فى يناير ٢٠١٦ تطبيع العلاقات مع إسرائيل مقابل رفع العقوبات الاقتصادية الأمريكية على بلاده، وهو ما يسقط كل ادعاءات الإخوان وأنصار نظام البشير بأنه كان رافضا للتطبيع، لكن الخلاف كان فقط على الثمن وكيفية دفعه!
وبعد إقامة العلاقات لم يعد مفاجئا أن يصل كبار قادة الموساد الإسرائيلى إلى الخرطوم، لكن المفاجئ أنهم كانوا يصلون من دون علم بعض كبار قادة الدولة بمن فيهم البرهان نفسه!
وبالتالى كان طبيعيا أن نصل إلى هذه المرحلة شديدة البؤس التى تعرض فيها إسرائيل التوسط لوقف الحرب الدائرة فى السودان حاليا.
هل نلوم إسرائيل أم نلوم السودان أم نلوم من فى هذه القضية؟!
بالطبع لا يمكن لوم إسرائيل لأنها تسعى لتعظيم مصالحها ومكاسبها والظهور أمام العرب والعالم بأنها الدولة التى تسعى للسلام بل والتوسط بين المقاتلين العرب، ولا يمكن لوم الشعب السودانى بالمرة، لأنه مغلوب على أمره ومنكوب بقيادات تتواصل مع العدو التاريخى للأمة، وتعجز عن التواصل فيما بينها للجلوس والتفاوض لحل المشاكل العالقة !.
وللموضوعية أيضا فلا يمكن لوم الحكومات السودانية كثيرا حينما لجأت للتطبيع، لأنها رأت غالبية البلدان العربية المؤثرة تندفع لإقامة علاقات دبلوماسية مع إسرائيل. واكتشفت أنها لا يمكن أن تخرج من القائمة الأمريكية للدول الراعية للإرهاب إلا عبر المرور بتل أبيب، وهو ما حدث مع المغرب أيضا فى نفس التوقيت بمقايضة تقوم بموجبها المغرب بإقامة علاقات مع إسرائيل، مقابل أن تنحاز أمريكا إلى المغرب فى قضية الصحراء.
المحزن أن غالبية الحكومات العربية لا تريد أن تفيق على الواقع المأساوى، وهو أن إسرائيل لا تخفى أهدافها، ومن مصلحتها ألا يتوقف القتال فى السودان أو فى أى منطقة بالعالم العربى، وستكون الأكثر سعادة إذا استمر الصراع فى السودان، وتواصل ليؤدى إلى تقسيم السودان وتفتيته إلى مليون قطعة.
الاستبداد الموجود فى العديد من أنظمة الحكم العربية والسياسات التى تقود إلى الفقر والتخلف والجهل هى أفضل ثغرة تنفذ منها إسرائيل، ليس فقط للتطبيع مع العرب، بل والرقص على جثثهم فى حروبهم العبثية.