بقلم - عماد الدين حسين
قبل أيام قرأت لأحد المعلقين العرب يرصد ملاحظة مهمة جدا، وهى أنه كلما قدم العرب تنازلات لإسرائيل، زاد تطرف الجناح اليمينى فيها، وصار أكثر عدوانية ضد العرب.
أهمية هذه الملاحظة المهمة أنها تهدم نظرية سادت كثيرا منذ بداية التسعينيات فى المنطقة العربية وما تزال، بل وتكتسب أنصارا كل يوم وخلاصتها أنه كلما اقترب العرب أكثر من إسرائيل وطبعوا معها وقدموا لها التنازلات، فإن ذلك كفيل بأن يقود إلى تقوية التيار الوسطى المعتدل فى إسرائيل ويوجه ضربات قوية للتيار المتطرف.
هذه النظرية آمن بها بعض المثقفين المصريين سابقا، واكتسبت زخما عربيا لافتا، ورأينا العديد من الدول العربية تقيم علاقات رسمية مع إسرائيل مؤكدة أن ذلك سيصب فى النهاية فى مصلحة الشعب الفلسطينى ويقنع إسرائيل بأن تقبل بتسوية سلمية عادلة وتعيد الحقوق المشروعة للشعب الفلسطينى.
هذه النظرية بلغت قمتها حينما كان حزب العمل هو الذى يقود إسرائيل لعقود كثيرة وازدهرت حينما بدأ حزب الليكود وسائر القوى اليمينية المتطرفة يرسخون أقدامهم ويشكلون تقريبا كافة حكومات إسرائيل منذ صعود الليكود بزعامة بنيامين نتنياهو للسلطة عام ١٩٩٦، بعد أقل من عام من مقتل رئيس الوزراء الإسرائيلى اسحق رابين على يد المتطرف اليمينى ايجال عامير فى ٣ نوفمبر ١٩٩٥.
حزب العمل الذى يصنفه بعضنا معتدلا هو الذى حكم إسرائيل منذ زرعها غصبا بالمنطقة وهو الذى شن كل الحروب الكبرى ضد مصر والعرب منذ ١٩٤٨ وحتى ١٩٩٥، بخلاف فترة قصيرة صعد فيها الليكود إلى الحكم حينما زار أنور السادات القدس فى ١٧نوفمبر ١٩٧٧ وتوقيع معاهدة السلام فى ١٩٧٩ مرورا بمحادثات وتعاهدات كامب ديفيد عام ١٩٧٨. جاء الليكود عام ١٩٩٦ وظل مهيمنا حتى هذه اللحظة على مقاليد السلطة، باستثناء فترات قليلة لحكم حزب العمل أو الأحزاب الوسطية الأخرى.
الآن الخريطة السياسية الإسرائيلية التى كانت سائدة منذ عام ١٩٤٨ تكاد تلفظ أنفاسها الأخيرة. حزب العمل لم يعد يملك أكثر من ٧ مقاعد من بين ١٢٠ مقعدا فى الكنيست، وتدهوره بدأ منذ سنوات وبلغ قمته فى الانتخابات الأخيرة قبل شهور. وحتى الليكود الذى تسيد المشهد بدأ يشهد تراجعا كبيرا لصالح أحزاب أكثر تطرفا منه، وهى التى فرضت على نتنياهو شروطا قاسية ضد العرب والفلسطينيين، لأنها تدرك أنه يريد كرسى السلطة بأى ثمن.
ورأينا حليف نتنياهو وهو المتطرف ايتمار بن غفير وزير الأمن القومى يقتحم المسجد الأقصى وهى المرة الأولى التى يفعلها مسئول رسمى وهو فى الحكم.
إذن يفترض أن يتحلى بالشجاعة الذين روجوا لنظرية أن المزيد من التطبيع المجانى سيجعل إسرائيل تعتدل، ويعلنون أنهم أخطأوا لأن الذى حدث هو العكس تماما.
المزيد من التطبيع جعل إسرائيل تتجه إلى المزيد من التطرف وليس العكس.
وبالتالى فإن الواقع يقول بوضوح إن النظرية أخفقت وأنه من دون توازن قوى بين الطرفين العربى والإسرائيلى فإن الأخير سيظل يواصل تطرفه، طالما أنه يأمن أى رد فعل عربى أو فلسطينى ناهيك عن ردود أفعال دولية ذات شأن.
يندر أن نجد مثل هذه النظرية تحقق نجاحا فى أى مكان فى العالم، خصوصا إذا كان الطرف المخاطب بها بنفس صفات الكيان الإسرائيلى، الذى قام بالأساس على فكرة الاستيطان وطرد شعب من أرضه لكى يستولى عليها ويهودها.
وبالتالى فإن التأثير فى سلوك الخصم أو المنافس أو العدو لا يمكن أن يتم من دون وجود أوراق ضغط حقيقية فى يد الطرف الأول وهو العرب. إسرائيل لم توقّع اتفاق السلام مع مصر، إلا لأنها تدرك قوتها الشاملة، وأن خروجها من المعادلة سيجعلها تستفرد بكل دولة عربية على حدة. وبالتالى فإنه من دون حد أدنى من التنسيق العربى، وحد أقصى من التنسيق والتوحد الفلسطينى الفلسطينى فإن إسرائيل ستظل تواصل التطرف، بينما نحن نواصل التوهم بالتأثير فيها من الداخل!
الخلاصة أنه من الواضح أن المعسكر اليمينى المتطرف فى إسرائيل لا يرى فى اتفاقيات التطبيع إلا باعتبارها عاملا مساعدا على مزيد من التهام الأراضى الفلسطينية وتهويدها، بحيث إننا لن نجد شيئا قريبا كى نتفاوض عليه.