بقلم - عماد الدين حسين
ما هو الدرس الذى يمكن استخلاصه من تمرد قوات وميليشيا فاجنر بزعامة يفجينى بريجوجين طوال يوم السبت الماضى على الدولة الروسية، قبل أن ينتهى هذا التمرد بصفقة غامضة تم بموجبها ترحيل قائد تمرد روسيا البيضاء وإسقاط التهم عن جنوده؟
أظن أن هناك العديد من الدروس، لكن أهمها على الإطلاق هو خطورة وجود كيانات وتنظيمات وجيوش وميليشيات خاصة بعيدا عن القوات المسلحة للدولة.
درس يوم السبت يقول لنا بوضوح إن خطورة هذه التنظيمات العسكرية الخاصة لا تقتصرعلى كون الدولة نامية أو متوسطة أو حتى عظمى عسكريا، فالخطر موجود طوال الوقت.
بدايات الميليشيات والتنظيمات العسكرية الخاصة غالبا ما تكون مثالية ونبيلة ومرتبطة بقضايا تحظى بإجماع وطنى واسع، بل وتلقى تأييدا شعبيا كاسحا فى البدايات، لكن وقتها يصعب تصور أن تكون النهايات مأساوية.
فى حالة قوات فاجنر فإن بداياتها كانت عام ٢٠١٤ حينما تكونت من ٤٠٠ شخص بزعامة ضابط سابق فى الجيش الروسى يدعى دييترى أوتكن، ولعبت دورا مهما فى السيطرة على شبه جزيرة القرم من أوكرانيا.
فكرة «فاجنر» تشبه إلى حد كبير ما فعلته شركة «بلاك ووتر» الأمريكية فى غزو العراق عام ٢٠٠٣. حيث أرادت الولايات المتحدة تقليل عدد جنود جيشها الرسميين فى العراق حتى تقلل الخسائر، مقابل التعاقد مع جنود وضباط سابقين من كل الجنسيات يتلقون رواتب ضخمة، لكن لا تربطهم صلة مباشرة بالجيش الرسمى، وفى حالة مقتلهم فإن الدولة لا تتحمل أى أعباء مادية أو معنوية بخلاف ما هو مذكور فى العقد.
بعد هذه التجربة الأمريكية قامت بعض الدول باستنساخها فى حروب وصراعات مختلفة، خصوصا روسيا حينما أسست فاجنر، التى لعبت دورا مهما فى الحروب والأزمات السورية والليبية وفى الصراع فى مالى ويقال إن لها دورا مهما فى دعم «ميليشيا الدعم السريع» فى السودان فى حربها الدائرة حاليا ضد القوات المسلحة السودانية.
تركيا أيضا كررت نفس الفكرة حينما أرسلت مرتزقة إلى ليبيا للقتال إلى جانب الحكومات التى تؤيدها فى غرب ليبيا، وإيران كررت فعل الشىء نفسه حينما أسست الحرس الثورى داخلها والعديد من الكتائب والتنظيمات العسكرية فى سوريا تحت مسميات عقائدية مثل «فاطميون وزينبيون» لدعم الحكومة السورية ضد التنظيمات الإرهابية، وإن كانت التنظيمات المدعومة إيرانيا عقائدية أكثر منها مرتزقة وهو ما ينطبق على حزب الله اللبنانى مثلا أو جماعة الحوثيين.
الفكرة الأساسية من وراء هذه التنظيمات أنه يسهل على الدولة المؤسسة لها الزعم بأنه لا توجد علاقة رسمية بينهما وإن كان الجميع يعلم بطبيعة الحال الحقيقة الكاملة.
وإذا كنا نعلم البدايات المثالية لهذه الميليشيات المسلحة، فقد صرنا نعرف النهايات المأساوية لها. ويكفى إلقاء نظرة سريعة على ما حدث من وجود التنظيمات المسلحة فى لبنان، ومن تدفقها على سوريا ومن دور الحوثيين فى اليمن ودور الميليشيات المسلحة مع طرفى الصراع فى ليبيا، بل إن بعض الميليشيات الليبية انقلبت على مؤسسيها وداعميها وصارت تلعب لصالح نفسها أو لصالح بعض قادتها فقط.
ونعلم أين وصل الحال بالصومال بسبب التنظيمات والميليشيات، وكذلك ما حدث ويحدث الآن فى السودان، بعد أن تمرد محمد حمدان دقلو «حميدتى» على القوات المسلحة وأشعل حربا للسيطرة على البلد بأكملها ونعلم أيضا خطورة وجود «الحشد الشعبى» فى العراق الشقيق، خصوصا بعد أن انحاز إلى أجنحة محددة فى المشهد السياسى خصوصا أيام الانتفاضة الشعبية عام 2019.
لم يكن أحد يتخيل إطلاقا أن ينسحب بريجوجين من أوكرانيا من أجل السيطرة على القيادة الجنوبية فى مدينة روستوف الروسية، ويهدد بالزحف على موسكو، ويقول إنه على بعد ٢٠٠ كيلومتر منها، وينتقد ويهاجم رئيس الأركان ووزير الدفاع وقادة الجيش والرئيس فلاديمير بوتين نفسه، ويجعل العالم بأكمله يقف مشدوها خوفا من أى تهور فى بلد يحتل المرتبة الأولى عالميا مكررا فى عدد الأسلحة النووية.
مرة أخرى درس فاجنر فى روسيا يوم السبت الماضى يقول لنا إن نهايات الميليشيات والتنظيمات العسكرية الخاصة مأساوية دائما، لأسباب كثيرة أهمها أن أفرادها يحصلون على منافع ومميزات لا يريدون خسارتها، ويعتقدون أنها صارت حقا مكتسبا لهم، وقادتها يرون أنهم الأجدر بحكم البلد بأكمله بعد أن كانوا مجرد قادة فى الظل، وتلك سمة فى النفس البشرية يصعب تجاهلها.