توقيت القاهرة المحلي 23:16:42 آخر تحديث
  مصر اليوم -

لا تقودوا البوسطة مرّةً أخرى

  مصر اليوم -

لا تقودوا البوسطة مرّةً أخرى

بقلم : سجعان قزي

قبلَ 13 نيسان 1975 وبعدَه، ومحاولاتُ إنشاءِ أوطانٍ على حسابِ كيانِ لبنان تتوالى وتَندَحِرُ الواحدةُ تلو الأخرى. بقي لبنانُ مستقِلًّا ولو بدون سيادةٍ وواحِدًا ولو بدون وِحدة. منذ نشوءِ هذا الوطنِ "الذخيرة" وعيونُ المحيطِ عليه كعيونِ الحاسِدين. لماذا منه انطلَق الحرْف؟ لماذا ذُكِر في الكتبِ المقدّسة، لماذا زاره المسيح؟ لماذا صَمَد عبرَ العصور؟ لماذا أطلقَ النهضةَ العربيّة؟ لماذا تأسّسَت دولتُه سنةَ 1920؟ لماذا سُمِّيَ بـــ"سويسرا الشرق"؟ لماذا كان دَخلُ الفردِ فيه بالنسبةِ للناتجِ القوميِّ في المرتبةِ التاسعة عالميًّا؟ لماذا... لماذا هو وليس نحن؟ تارةً يريدون لبنانَ جُزءًا من وِحدةٍ عربيّةٍ وتارةً أخرى من وِحدةٍ إسلاميّة. طورًا جُزءًا من سوريا الكبرى وطورًا آخَرَ من إسرائيل الكبرى. حينًا من هلالٍ سُنيٍّ وحينًا آخرَ من هلالٍ شيعيّ. 
حين يَكثُر أدْعِياءُ الحقوقِ في لبنان تَنتفي حقوقُهم ويَنكَشِفُ زَيْــفُــها ويَتأكّدُ أنَّ لبنانَ للبنانيّين وليس للبيعِ أو للإقراضِ مع أنّه بِيعَ وأُقرِضَ مرارًا من دون أن ينالَ بَدَلًا. المحزنُ أنَّ جميعَ تلك الادِّعاءاتِ وَجدَت صدىً لدى المكوِّناتِ اللبنانيّةِ، لا بل انطلقَ بعضُها من لبنان. والمحزنُ أيضًا أنْ حين تراجَعت ادّعاءاتُ الدولِ الخارجيّةِ بلبنان، بانَت دويلاتُ الداخلُ. وأُضيفَ إلى الصراعِ على لبنان صراعٌ في لبنان، وإلى الصراعِ على الكيانِ صراعٌ على الدولة. وها نحن اليومَ نواجِهُ قيامَ دولةٍ مذهبيّةٍ بموازاة، وأحيانًا مكانَ، دولةِ لبنان الديمقراطيّةِ والتعدّديّة.
في مثلِ هذه التاريخِ سنةَ 1975، قاومْنا مشروعَ إنشاءِ وطنٍ فِلسطينيٍّ بديلٍ على أرضِ لبنان. أوّلُ محاولةٍ لتحقيقِ مشروعِ "حلِّ الدولتين" جُرِّبَت في لبنان وفَشِلت. كان الفِلسطينيّون ضَحيّتَها واللبنانيّون ضحيّتَهم. جاهدَ اللبنانيّون منذ سنةِ 1969 لتفادي ركوبِ "بوسطة عين الرمّانة" في 13 نيسان 75. تنازلوا عن سيادةِ الدولةِ في "اتفاقِ القاهرة"، حاوروا المنظّماتِ الفِلسطينيّةَ، ابتدعوا شعارَ "التفهّمِ والتفاهُم"، وسَّطوا الدولَ العربيّة، ناشدوا العالم، وتعرّضوا لاعتداءاتٍ إسرائيليّة. لكن، حيالَ كلِّ تنازلٍ لبنانيٍّ كان يَتضاعَف التطاولُ الفِلسطينيُّ على لبنان، بتواطؤ أطرافٍ لبنانيّين، حتى امتدّت الدويلةُ الفِلسطينيّةُ من الجنوبِ إلى بيروت والبقاع، وكان ما كان. أما "البوسطةُ" فوَجَّهها مُخرِجُو الحرب إلى عين الرمّانة لتكونَ الذريعةَ والشرارة. سائقُ البوسطة عربيٌّ ومُحرِّكُها غربيٌّ و"المعاوِنُ" لبنانيّ.
مصالحتُنا مع منظّمةِ التحريرِ الفِلسطينيّةِ وتقديرُنا لهذا الشعبِ المنتفِضِ والمقاوِم على أرضِه ولو بالحِجارة، لا يَجبُ أن يَحُولا دون الاعترافِ بأحداثِ التاريخ. نحن بحاجةٍ إلى تاريخِنا لنتصالحَ مع أنفسنا. تَصالحنا مع الجميعِ إلّا مع أنفسِنا. نكادُ نكون مثلَ القائدَين الرمانيَّين أوكتاڤ ومارك-أنطوان اللذَين التقيا وحَكما معًا (القرنُ الأوّل ق.م.) من دون أن يَتصالحا. لا نُصِرُّ على استذكارِ أحداثِ حربِ السنتين، لكنّنا نُصِرُّ على تَذكّرِ حدوثِها. 
يَشعرُ اللبنانيّون أنَّ استذكارَ مَحطّاتِ صمودِهم التاريخيِّ مُحرَّمٌ عليهم لعدمِ إثارة أحداثٍ أليمةٍ لا إجماعَ حولها. متى صَنعَ الإجماعُ حقيقةً؟ ومتى أجْمعَ اللبنانيّون على حقيقة؟ مَن يُغفِلُ نضالاتِه ومقاومتَه وصمودَه وانتصاراتِه، وحتى هزائمَه، يَضعُفُ ولاؤه لوطنه، فالولاءُ هو تراكمُ وقَفاتٍ تاريخيّة. لا تترسّخُ المشاعرُ الوطنيّةُ ويَتعزّزُ مجدُ أمّةٍ بطمسِ الذاكرةِ التاريخيّة. وإذا كان اللبنانيّون يَشكون من ارتخاءِ وِحدتِهم فلأنّهم مكتومُو الذِكرياتِ القوميّةِ المشتركَة. لن نَذهبَ إلى ما ذهبَ إليه شعبُ الأزتيك Aztèques قديمًا ــــ المكسيك حاليًّا ـــ إذ اعتبر أنْ لولا تضحياتُه الدائمةُ لا تَشرُق الشمس، لكنّنا واثقون بأنْ لولا صمودُنا لما كانت الشمسُ تُشرِقُ علينا وعلى لبنان.
لذلك، أخْجَلُ اليومَ من أولئك الّذين يَخجَلون من ذاك اليومِ (13 نيسان 1975) ويَتهرّبون من إحياءِ ذِكراه ويُنكِرونَه ويَغسِلون أياديَهم منه كأنّه ذِكرى جريمةٍ في حين أنّه بدايةُ مقاومةٍ للحفاظِ على وِحدةِ لبنان وهُويّتِه ونظامِه الديمقراطيّ. من يَتناسى الشهداءَ تَنساه الحياة. لا إحراجَ في الدفاعِ عن الوجودِ والوطنِ والشرَف. أنتخيّلُ الشعبَ الفرنسيَّ يَستحي من ذكرى انطلاقِ المقاومةِ الفرنسيّةِ سنةَ 1940؟ والشعبَ الفِلسطينيَّ من ذكرى انطلاقِ منظمّةِ فَتح؟ 
ابتعدت الأجيالُ الجديدةُ عن تواريخِ أممِها. صار التاريخُ سَردًا لا أمثولة. سَقط منه أحدُ أبعادِ الوجودِ الثلاثة (الماضي والحاضر والمستقبل). صار مفهومُ الدولةِ مثلَ مفهومِ البيوتِ الجاهزةِ لا أساساتٍ ثابتةً لها ولا لها قِصّةٌ في الزمَن. أضْحَت الهُويّةُ الذاتيّةُ أقوى من الهُويّةِ الجماعيّةِ، والهُويّةُ الفئويّةُ أقوى من الهُويّةِ الوطنيّة، والهُويّةُ القوميّةُ أقوى من الهُويّةِ الإنسانيّة. بكلمةٍ أصبحت الهُويّةُ انتماءً إلى "الحالِ الراهنة".
صحيحٌ أنَّ تاريخَ لبنان ثقيلٌ على جغرافيّتِه، وأحداثَه كبيرةٌ على شعبِه، وحروبَه أوْزَنُ من مصالحاتِه، لكنَّ الصحيحَ أيضًا أنّنا زِدْنا على أنفسِنا أحداثًا لا طائلَ منها وحروبًا لا علاقةَ لنا بها حتى أصبح الغُرباءُ شركاءَ في تاريخنِا ومُعتدين على جغرافيّتِنا. وإذا كان نظامُنا الديمقراطيُّ وفَّر لنا جميعَ الوسائلِ السلميّةِ والحضاريّةِ للتعاطي مع بعضِنا البعض وحلِّ ما يطرأُ من مشاكل في ما بينَنا ومع محيطِنا، فالمحيطُ، وكذلك بعضُنا، آثَرا اللجوءَ إلى وسائلِ عنفٍ للتعاطي مع لبنان الجار واللبنانيّين الشركاء.
الغريبُ ـــ أو غيرُ الغريب ــــ أنَّ 13 نيسان 1975 يعود إلينا هذه السنةَ لا كَيومٍ من الماضي بل من المستقبل. فاللبنانيّون الّذين يحاولون نسيانَه وتردادَ: "يُذكَرُ ولا يُعاد"، يَتخوّفون من تَكرارِه لأنَّ هناك مَن يُعيدُ تصليحَ "بوسطةِ عين الرمّانة" ويـَمُدُّها بالوقود. وهناك من يُعطِّلُ النظامَ والميثاقَ والمؤّسساتِ ويَرفض الحوارَ الجِديَّ ويَفرِضُ مشروعًا من خارج البيئةِ اللبنانيّةِ ويَستخدمُ لذلك أطرافًا مُتيَّمين بالمصالحِ والمناصب. يظنُّ هذا الفريق أنَّ سنةَ 2022 هي سنتُه كما كانت سنةُ 1920 سنةَ المسيحيّين، ويسعى إلى اختراعِ لبنان نقيضَ لبنان. سها عن بالِ هذا الفريق أنَّ المسيحيّين بَنوْا لبنانَ بالمحبّةِ والانفتاحِ لا بالغطرسةِ والانعزال، ولم يَحتكموا إلى السلاحِ والترهيب، بل إلى الفكرِ ومحاكاةِ التقدّمِ والحضارة. 
حرَّرنا لبنانَ من جيوشِ الاحتلال، وبقيَ أن نحرَّره من جيوشِ العقائد. حبّذا لو تتمُّ هذه العمليّةُ من خلالِ صندوقِ الاقتراعِ لا من خلال بوسطةٍ جديدةٍ وسائقٍ جديد.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

لا تقودوا البوسطة مرّةً أخرى لا تقودوا البوسطة مرّةً أخرى



GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

GMT 10:15 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

القديم والجديد؟!

GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

إلهام شاهين تتألق بإطلالة فرعونية مستوحاه من فستان الكاهنة "كاروماما"

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 20:45 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

مسلسل جديد يجمع حسن الرداد وإيمي سمير غانم في رمضان 2025
  مصر اليوم - مسلسل جديد يجمع حسن الرداد وإيمي سمير غانم في رمضان 2025

GMT 08:28 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

غوتيريش يدعو مجموعة العشرين لبذل جهود قيادية لإنجاح كوب 29
  مصر اليوم - غوتيريش يدعو مجموعة العشرين لبذل جهود قيادية لإنجاح كوب 29

GMT 09:59 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

نجوى كرم بإطلالات استثنائية وتنسيقات مبهرة في "Arabs Got Talent"

GMT 06:27 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

باريس هيلتون تحتفل بعيد ميلاد ابنتها الأول في حفل فخم

GMT 15:43 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 07:40 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

بايرن ميونيخ يتعرض لغرامة مالية بسبب الالعاب النارية

GMT 10:02 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

فساتين الكاب تمنحك إطلالة ملكية فخمة

GMT 10:09 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

أفكار هدايا مبتكرة ومميزة في موسم الأعياد

GMT 01:58 2018 الأحد ,07 تشرين الأول / أكتوبر

وزير الكهرباء

GMT 19:30 2018 الخميس ,06 كانون الأول / ديسمبر

الفنانة نجلاء بدر تعلن وفاة عمها عبر "فيسبوك"

GMT 18:12 2018 الجمعة ,27 إبريل / نيسان

إغلاق مقاهي روما تحسبًا لشغب جماهير ليفربول

GMT 06:50 2022 السبت ,10 كانون الأول / ديسمبر

تألق البرازيلي برونو سافيو في 9 مباريات مع الأهلي

GMT 12:25 2021 الإثنين ,08 شباط / فبراير

طريقة عمل أرز بالبصل
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon