توقيت القاهرة المحلي 07:37:36 آخر تحديث
  مصر اليوم -

بوتين... من فرانك سيناترا إلى ليونيد بريجنيف

  مصر اليوم -

بوتين من فرانك سيناترا إلى ليونيد بريجنيف

بقلم - أمير طاهري

مع استمرار الحرب في أوكرانيا يتساءل كثير من المعلقين أين ومتى سيقرر فلاديمير بوتين وضع نهاية لسلوكه العدائي الحالي. إذا ما قمنا بالغوص في التاريخ الروسي ربما نجد البعض يؤكد أنه حتى إذا توقف عما يفعله فسيكون ذلك تحركاً مرحلياً على شاكلة ذلك التحرك الذي وصفه لينين بأنه «خطوة واحدة للوراء وخطوتان للأمام»، فسلوك بوتين لديه جذور في تكوين النفس الروسية.
ظل الروس منذ بداية ظهورهم كشعب مميز يخشون أن يصبحوا مثل الآخرين، فنظراً لافتقارهم إلى أشكال الدفاع الطبيعية، كانت أراضيهم الشاسعة معرّضة للغزو الأجنبي. يطرح نيكولاي تشيرنيشيفسكي في روايته «ما الذي يمكن فعله؟» سؤالا عما إذا كان على روسيا أن تصبح أوروبية أو آسيوية أم تظل كما هي وتجعل أوروبا وآسيا مثلها. بالنسبة إلى خومياكوف وغيره من أنصار القومية السلافية، لا ينبغي على روسيا السماح بخسارة أي جزء من تربتها أو روحها لصالح الآخرين حتى تؤدي واجبها كروما الثالثة وآخر حاملي لواء المسيحية الحقيقية.
لذا عندما يقول بوتين إن أوكرانيا كانت وما زالت روسية، ويجب أن تعود روسية مرة أخرى، فإنه يعبر عن كبرياء قومية لها جذور ضاربة في العمق تجعل أي علاقة مع العالم الخارجي قائمة على الصراع بفعل الواقع. لقد عبّر لينين عن ذلك الغرور الروسي القديم بأسلوبه من خلال استخدام نسخة تم إساءة فهمها من الجدل الهيغلي. وقد كتب: «سنكون آمنين ونصرنا سيكون نصراً حقيقياً فقط عندما تنجح قضيتنا في العالم أجمع». لقد تقبل التعايش بين الاشتراكية والرأسمالية خلال «فترة انتقالية»، لكنه أصرّ على أن روسيا في ثوبها البلشفي آنذاك لن تكون في أمان «إلى أن تغزو قضيتنا العالم بأسره». كذلك كتب: «من غير المعقول للجمهورية السوفياتية أن توجد إلى جانب دول إمبريالية لأي مدة من الزمن. يجب أن ينتصر أحد الطرفين في النهاية».
لقد ارتكب لينين خطأين في استخدامه للجدلية؛ أولاً لقد افترض ضرورة حل الصراع بين الأطروحة والأطروحة المضادة «في النهاية» وهو نطاق زمني خيالي. ثانياً لم يتمكن من إدراك أن الصراع في الجدل الهيغلي ينتهي بأن الاثنين يمثلان ولا يمثلان الأطروحة والتأليف مع تمثيل واقع ثالث جديد. بعبارة أخرى يمكن القول إن الصراع بين الاشتراكية والرأسمالية ليس مثل مباراة ملاكمة يجب أن تنتهي بعد عدد محدد سلفاً من الجولات بفوز أحد الطرفين بالضربة القاضية.
في نهاية الخمسينات بعدما أصبح تفاخر نيكيتا خروشوف بـ«دفن العالم الرأسمالي» بحلول عام 2000 نكتة سخيفة، أعاد من خلفوه قولبة الرؤية ذات المظهر الروحاني لخومياكوف ولينين الخاصة بدور روسيا في التاريخ من خلال التخلي عن الجوانب المسيحية والشيوعية، وجعلوها مستندة إلى الحفاظ على مصالح روسيا ونفوذها كدولة. مثّل ذلك ميلاداً لعقيدة بريجنيف، التي لن تسمح روسيا بموجبها لأي دولة كانت تقع ضمن نطاق النفوذ الروسي أو كان لديها نظام شيوعي، بالانفصال والانضمام إلى «الجانب الآخر».
طبقاً لهذه العقيدة قمعت الدبابات الروسية ربيع براغ، وحاولت لاحقاً الحفاظ على النظام الشيوعي المتداعي في كابل من خلال غزو أفغانستان، حيث لم يكن الهدف غزواً عالمياً أو هيمنة عالمية، بل تمسك بالجزء الروسي من العالم. حين وصل ميخائيل غورباتشوف إلى رأس السلطة في الكرملين، كانت الكارثة الأفغانية وتنامي السخط في شرق ووسط أوروبا جعلا من عقيدة بريجنيف لا لزوم لها.
وضع غورباتشوف عقيدته الصغيرة الخاصة من خلال الاعتراف بما تسمى الجمهوريات الشعبية في منطقة النفوذ الروسي في أوروبا، بل ومساعدتها في بعض الحالات في المضي في طريقها المستقل شريطة عدم إقصاء روسيا تماماً. كانت رسالته الباطنية هي إمكانية تشارك الاتحاد السوفياتي و«العالم الرأسمالي» للغنيمة التي حظوا بها بعد الحرب العالمية الثانية، وإنشاء نظام عالمي جديد قائم على «قيم عالمية» و«مصالح مشتركة».
على عكس لينين، الذي رأى أن كل العلاقات قائمة على الصراع والتنافس، اعتقد غورباتشوف وجود إمكانية للجمع بين الأطروحة والأطروحة المضادة في رقصة تانغو صناعية عالمية. من المثير للاهتمام أن الدول الديمقراطية الغربية قد أرادت بقاء الاتحاد السوفياتي كأحد أعمدة الاستقرار في أوروبا. وأكد جيمس بيكر الثالث، وزير الخارجية الأميركي خلال فترة حكم الرئيس جورج بوش الأب، أن «انعدام الاستقرار في أوروبا الشرقية ليس في مصلحتنا»، وكانت الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا العظمى تناور من أجل تأجيل أو منع إعادة توحيد ألمانيا.
كذلك كرر غينادي غيراسيموف، المتحدث باسم وزارة الخارجية السوفياتية، في عام 1989 ما قاله ألكسندر ياكوفليف، عضو المكتب السياسي للجنة المركزية للحزب الشيوعي، بطريقة مازحة قبل ذلك بعدة أسابيع بتأكيده أن الاتحاد السوفياتي أراد أن يكون جزءاً من نظام عالمي قائم على التنوع. قال: «اليوم تبنينا عقيدة سيناترا بدلاً من عقيدة بريجنيف وهو ما يسمح لكل دولة بالمضي في طريقها المستقل».
بطبيعة الحال كانت تلك إشارة إلى الأغنية الشهيرة للمغني الأميركي فرانك سيناترا «لقد فعلت ذلك على طريقتي»، والتي أحبها ألكسندر ياكوفليف، وأعضاء آخرون في المكتب السياسي من محبي صاحب العينين الزرقاوين. ظلت عقيدة سيناترا مطبّقة في الكرملين حتى بعد حلّ وتفكك الاتحاد السوفياتي، وهو ما أبقى الأمل في العثور على موضع ملائم لروسيا في نظام عالمي جديد خالٍ من التنافس الآيديولوجي وسباق تسلح وتنافس إمبريالي على الهيمنة في «العالم الثالث» قائماً.
بغض النظر عن الطرف المسؤول لم تتحقق آمال العثور على موضع ملائم لروسيا قط، وربما يعزى ذلك بشكل ما جزئياً إلى رغبة روسيا الدائمة في الحصول على أكثر مما تستحق، وتقديم القوى الغربية أقل مما تستحقه روسيا. تمثل لغة بوتين القومية المتطرفة المتشددة، ووهم الاجتياح لتحقيق مكاسب في أوكرانيا رداً جافاً على ذلك الواقع. من المؤكد أنه قد دفن عقيدة سيناترا، لكن لا يمكن للمرء أن يؤكد ما إذا كان قد عاد وارتد إلى عقيدة بريجنيف بالكامل أم لا.
توضح الإشارات المتعارضة القادمة من موسكو أنه قد ينتهي به الحال إلى تبني الرئيس بوتين نسخة أكثر اعتدالاً من عقيدة بريجنيف من خلال القبول بضمّ قطعة أخرى من أوكرانيا. تقول ماريا زاخاروفا، المتحدثة باسم وزارة الخارجية في موسكو، إن أوكرانيا «بشكلها الموجود على الخريطة وبتلك الحدود المرسومة قد انتهت ولن تعود مرة أخرى». تتمثل المشكلة في أنه إذا تمكن بوتين من إعادة تشكيل أوكرانيا في دولة أصغر حجماً، ربما يشعر بإغواء الارتداد إلى العقائد التي تبناها وأيّدها كل من خومياكوف ولينين التي تقوم على آراء مختلفة لهما، لكنها متشابهة في طابعها الروحاني، عن دور روسيا في التاريخ الإنساني. قد يعني ذلك نشوب صراعات أخرى، بل وحروب أخرى في أوروبا، وربما حتى في آسيا والشرق الأوسط وأفريقيا. من وجهة نظر روحانية للشؤون الإنسانية كثيراً ما تكون معرفة نقطة البداية أمراً سهلاً، لكن من الصعب معرفة موضع نقطة النهاية. لهذا السبب ربما لن تكون حتى نهاية الحرب في أوكرانيا أمراً كافياً لاستعادة سلام دائم في أوروبا.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

بوتين من فرانك سيناترا إلى ليونيد بريجنيف بوتين من فرانك سيناترا إلى ليونيد بريجنيف



GMT 20:18 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

مؤتمر الصحفيين السادس.. خطوة للأمام

GMT 14:59 2024 الثلاثاء ,03 أيلول / سبتمبر

مشاهد مُستَفِزَّة.. “راكبينكم راكبينكم..”!

GMT 06:36 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

… لأي قائمة يسارية ديمقراطية نصوت ؟!

GMT 06:23 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

ماذا قال يمامة؟

GMT 06:16 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

مشكلة إصلاح التعليم

الملكة رانيا تربعت على عرش الموضة بذوقها الراقي في 2024

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 09:43 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

GMT 05:12 2024 الخميس ,05 كانون الأول / ديسمبر

تصريح عاجل من بلينكن بشأن اتفاق وقف إطلاق النار في غزة

GMT 09:08 2018 السبت ,24 آذار/ مارس

لعبة Sea of Thieves تتوافر مجانا مع جهاز Xbox One X

GMT 08:25 2024 الثلاثاء ,10 كانون الأول / ديسمبر

طائرة "مناحم بيغن" تتحول لفندق ومطعم

GMT 21:48 2021 الجمعة ,12 شباط / فبراير

بالميراس يقترب من التعاقد مع دييجو كوستا

GMT 18:37 2020 الثلاثاء ,29 كانون الأول / ديسمبر

شركات المحمول تتجه لرفع أسعار الخدمات خلال 3 شهور

GMT 08:43 2020 الأحد ,20 كانون الأول / ديسمبر

منظمة الصحة في ورطة بسبب "التقرير المفقود" بشأن "كورونا"

GMT 07:47 2020 الجمعة ,18 كانون الأول / ديسمبر

تطورات جديدة في واقعة الاغتصاب الجماعي لفتاة داخل فندق

GMT 00:41 2020 الجمعة ,18 كانون الأول / ديسمبر

عمر ربيع ياسين يكشف آخر كواليس معسكر منتخب مصر

GMT 12:05 2020 الجمعة ,04 كانون الأول / ديسمبر

فيفا عبر إنستجرام يبرز نجوم مصر محليا وقاريا

GMT 07:41 2020 الخميس ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

أسعار الفاكهة في مصر اليوم الخميس 19 تشرين الثاني/نوفمبر 2020

GMT 01:42 2020 الثلاثاء ,06 تشرين الأول / أكتوبر

بايرن ميونخ يعلن ضم موتينج ودوجلاس كوستا في أقل من نصف ساعة

GMT 22:56 2020 الخميس ,01 تشرين الأول / أكتوبر

تسريب جديد للمُقاول الهارب محمد علي "يفضح" قطر
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon