بقلم - أمير طاهري
بغضّ النظر عن النتيجة التي سيسفر عنها اجتياح فلاديمير بوتين لأوكرانيا، فإن الأزمة التي أشعلها ربما تترك تداعيات دائمة، على رأسها عودة الحرب كأداة روتينية للسياسة على نطاق عالمي.
قبل الاجتياح الروسي، كان هناك إجماع ضمني على أن الحرب شيء يجري داخل ما يسمى «العالم النامي»، حيث دخل العرب في حروب مع إسرائيل، وذبح الأفارقة إخوانهم الأفارقة، ووقف الهنود والباكستانيون بعضهم في مواجهة بعض.
في الوقت ذاته، كان من المعتقد أن أوروبا أغلقت كتاب الحروب الخاص بها إلى الأبد. أما حروب البلقان التي اندلعت في تسعينات القرن الماضي، فجرى النظر إليها بوصفها حرباً أهلية متعددة الطبقات تشمل أجزاءً من الدولة اليوغوسلافية الفاشلة.
اليوم، جاء اجتياح بوتين ليكشف أنه حتى أوروبا، بل ربما حتى أميركا الشمالية غداً، ليست في مأمن من الانجرار إلى الحرب بسبب أمر مزعزع للاستقرار.
ومن أجل تبرير عملياته العسكرية، استشهد بوتين بالمطالب الوحدوية إلى جانب مطالبات الأهل وأصحاب صلات القرابة ومصالح الأمن الوطني.
وإذا جرى اعتماده كسلوك مقبول، فإن ذلك سيجعل سيناريو بوتين قابلاً للتطبيق على الكثير من الحالات الأخرى في جميع أنحاء العالم.
ويكمن المثال الأوضح على ذلك، في الصين، حيث يمكن للنظام الشيوعي أن يهدد تايوان على أساس أسباب شبيهة بتلك التي ساقها بوتين. إلا أنه يمكن استخدام نفس الحجج والأسباب ضد روسيا من جانب الصين واليابان، نظراً لأنها تحتل أجزاءً كبيرة من الأراضي الصينية إلى جانب الأرخبيل الياباني، كوريل.
ويمكن أن يشكّل السير على نهج بوتين، ذريعة للهند لمحاولة استعادة السيطرة على الجزء من كشمير الذي فقدته لصالح باكستان في وقت التقسيم. وبإمكان الهند كذلك استخدام نموذج الرئيس بوتين لمحاولة استعادة الأراضي الاستراتيجية التي فقدتها لحساب الصين.
سيكون لدى فيتنام لاوس كذلك عذر لمحاولة استعادة الأراضي التي فقدتها لصالح لصين، في الوقت الذي يمكن لميانمار أن تتمسك بالمطالبة بأندامان التي قدمها البريطانيون للهند.
من جهتها، يمكن لإيران أن تتبنى النهج البوتيني وتحاول استعادة السيطرة على الأراضي التي فقدتها أمام القياصرة في القوقاز وحوض بحر قزوين. كما يمكنها إحياء «حق الإشراف» على «المدن المقدسة» لدى الشيعة في العراق الممنوح إليها بموجب معاهدة قصر الشيري، بل ما الذي يمنع أن تسعى إيران لضم العراق؟ كانت بغداد موقع عاصمة الإمبراطورية الساسانية لقرون، تماماً مثلما يقول بوتين إن كييف شكّلت قلب روسيا.
وبوصفها خليفة الإمبراطورية العثمانية، يمكن لتركيا إحياء المطالبات بأحقية السيطرة على أجزاء من شمال العراق وأجزاء من سوريا. أما سوريا، فإنها إذا عادت دولة قومية، يمكن أن تعاود مطالبتها بالإسكندرونة التي سلمها الفرنسيون إلى تركيا بمقتضى معاهدة مجحفة.
وبالمثل، يمكن لسوريا إحياء مطالبتها بمزارع شبعا اللبنانية الخاضعة الآن للسيطرة الإسرائيلية، ناهيك بمرتفعات الجولان التي ضمّتها إسرائيل لأراضيها.
وبإمكان أفغانستان، إذا ما عادت دولة قومية، استغلال الادعاء الذي طرحه بوتين بخصوص محاولة إعادة لمّ شمل الأهل والأقارب، لضم أراضي البشتون الباكستانية.
في الواقع، تحوي أفريقيا فرصاً لا حصر لها أمام هذا النهج البوتيني. على سبيل المثال، فإن إريتريا، دولة أخرى من المؤيدين الثلاثة لاجتياح بوتين، ربما تتضح أمامها البوتينية التي استخدمتها إثيوبيا ضدها والتي سيطرت عليها كمقاطعة على مدار قرون، تماماً مثلما أنه من المفترض أن روسيا امتلكت أوكرانيا.
ويمكن لشمال الصومال استخدام نموذج بوتين في دونيتسك ولوغانسك للمطالبة بالاستقلال عن بقية الدولة الفاشلة التي تتخذ من مقديشو مقراً لها. ويمكن للجزء الناطق باللغة الإنجليزية من الكاميرون أن يتبنى «الجهاد اللغوي» الذي أطلقه بوتين كنموذج يبرر الانفصال عن النصف الناطق بالفرنسية من هذه الدولة غرب الأفريقية. أيضاً، يمكن لما تسمى الكونغو الديمقراطية استخدام حجة بوتين حول حق روسيا في شبه جزيرة القرم وبحر أزوف، لضم كابيندا أخيراً والوصول إلى المحيط...
وإذا التفت المرء إلى مزاعم «لمّ شمل الأهل والأقارب» التي طرحها بوتين، فستتعين إعادة رسم خرائط 30 دولة على الأقل في أفريقيا جنوب الصحراء.
داخل أميركا اللاتينية، يمكن لبوليفيا استخدام الحجج البوتينية لمهاجمة تشيلي للوصول إلى المحيط. ويمكن أن تخوض تشيلي والأرجنتين حرباً لحل نزاعهما الدائم على تيرا ديل فويغو. وماذا عن المكسيك التي تحاول «تحرير» كاليفورنيا وتكساس من الإمبرياليين الأميركيين؟
علاوة على ذلك، من الممكن أن تُلهم سياسة الانتقام على نهج بوتين كندا لمحاولة استعادة الأراضي التي خسرتها أمام الولايات المتحدة. وربما يحاول بوتين الذي يلوم لينين على «إنشاء» أوكرانيا، تصحيح «الخيانة التاريخية» الروسية الأخرى من خلال إعادة ألاسكا، التي باعها «القياصرة الفاسدون» للأميركيين، إلى أحضان «روسيا الأم».
بالعودة إلى أوروبا، ماذا عن استعادة إيطاليا لسافوي، التي ضمّتها فرنسا في سبعينات القرن التاسع عشر؟ ناهيك بكورسيكا التي انتزعها الفرنسيون من جنوة. من جانبها، يمكن لفرنسا، التي انخرطت اليوم في حرب غير دموية، حتى الآن، مع بريطانيا بسبب الصيد في مياه الجزر الأنغلو - نورماندية أن تتّبع النهج الروسي باجتياح جيرسي وجيرنسي.
والآن، ما الذي يمنع صربيا من محاولة استعادة السيطرة على كوسوفو، «الأرض المقدسة» الصربية، كما يفترض أن تكون أوكرانيا بالنسبة لروسيا، وضم الجزء من البوسنة والهرسك الذي لم يخضع بعد لسيطرة الصرب؟
يمكن كذلك استخدام الفكرة البوتينية ضد روسيا نفسها في أوروبا وآسيا. ألا ينبغي أن يعود جيب كالينينغراد، قلب بروسيا ومسقط رأس كانط، إلى ألمانيا؟ وماذا لو غزت فنلندا روسيا بحجة استعادة أراضيها المفقودة؟ كل ذلك ناهيك بالرعب الهائل الذي أخذه القياصرة من الخانات في آسيا الوسطى.. ولسيبيريا الحق في المحيط الهادئ. استمرت روسيا في التوسع في كل من الحقبة القيصرية ومعظم الحقبة السوفياتية، وطرح بوتين نفسه بوصفه «الغازي الأكبر» من خلال غزو جورجيا عام 2008، وبدء حربه ضد أوكرانيا عام 2014.
وباستخدام الحجج البوتينية، إما أن تعود دول البلطيق إلى الحكم الروسي وإما أن تعود روسيا إلى حكم ليتوانيا أو السويد. وربما تختفي بولندا، مرة أخرى، من الخريطة. وكما قال الساخر الفرنسي ألفريد جاري: «تصبح ما هي عليه حقاً: لا مكان!».
خلاصة القول إنه إذا تبنينا مبدأ بوتين، فسينتهي بنا الأمر إلى عالم ينعدم فيه القانون ينطبق فيه شعار هتلر «القوة حق»، ونقطع فيه قفزة عملاقة نحو العودة إلى عصر كانت فيه الحرب هي الحَكَم الرئيسي للعلاقات بين الدول.
في أوكرانيا، أنشأ بوتين نسخة جديدة من غيرنيكا في ماريوبول.
لقد تجاهل العالم الدرس المستفاد من غيرنيكا الأصلية، وبالتالي شجع أولئك الذين تسببوا في المأساة. أما النتيجة فكانت أكثر الحروب وحشية في تاريخ البشرية. وسيكون من الحماقة المطلقة تجاهل رسالة ماريوبول وعدم محاولة إيقاف دوامة الجحيم العالمي التي خلقتها حرب لا معنى لها.