توقيت القاهرة المحلي 07:29:36 آخر تحديث
  مصر اليوم -

العلّة الفرنسية تضرب من جديد

  مصر اليوم -

العلّة الفرنسية تضرب من جديد

بقلم - أمير طاهري

بالنظر إلى تاريخ فرنسا الحديث، سنجد أن يونيو (حزيران) من المفترض أن يشكل لحظة هدوء يستعد الناس خلالها لقضاء العطلات الصيفية. عادةً ما تشتعل المسيرات الاحتجاجية وأعمال الشغب، بل حتى الثورات في الربيع، خصوصاً أن مايو (أيار) يعد الشهر الأكثر سخونة على صعيد المشاحنات السياسية. في المقابل، نجد أنه مع حلول يونيو (حزيران) تكون امتحانات البكالوريا قد انتهت، وصرفت المكافآت السنوية وانتهى موسم جني الثمار. وعليه، جاءت أعمال الشغب التي وقعت الأسبوع الماضي وخلقت عاصفة من الفوضى داخل الضواحي الباريسية وعشرات المدن الأخرى في فرنسا، بمثابة صدمة مدوية.

«أعمال شغب تهز فرنسا»، كان هذا واحداً من العناوين الرئيسية التي تصدرت الصحف البريطانية. «الشباب المسلم يعصف بضواحي باريس!»، كان ذلك التوصيف الذي اختارته صحيفة ألمانية للأحداث التي شهدت حرق أكثر من 100 مبنى عمومي، بينها قاعات للمدن ومدارس وعشرات الحافلات وعربات الترام، إلى جانب إتلاف مئات السيارات ونهب عدد لا حصر له من المتاجر، والأكثر دراماتيكية من ذلك، تخريب مكتبة الكازار، مكتبة مارسيليا العامة الأيقونية.

إذاً، ماذا يجري في فرنسا؟ ما عاينّاه الأيام الماضية لم تكن بالتأكيد أعمال شغب عِرقية. الحقيقة أنه رغم وجود متعصبين داخل فرنسا بالفعل، فإنها كبلد تعد الأقل عنصرية من بين جميع البلدان الأوروبية. واللافت أن برلمانها يضمّ أعضاء من خلفيات أفريقية وعربية مسلمة، بل كذلك مجلس وزرائها قبل نصف قرن على الأقل من سماح الولايات المتحدة لـ«أقليتها المرئية» بمقعد جانبيّ داخل مؤسسات السلطة السياسية.

وعلى امتداد عقود، كانت فرنسا بمثابة ملاذ للكتّاب والموسيقيين ونشطاء حقوق الإنسان ومواطنين «عاديين» من الأميركيين أصحاب البشرة السمراء ممن يشعرون بالاستياء إزاء التمييز العنصري.

ومع أن أعمال الشغب التي اشتعلت الأسبوع الماضي بدأت شرارتها بقتل الشرطة فتى يبلغ 17 عاماً من أصل جزائري، فإن القتل لم يكن بدوافع عنصرية. وحسبما أوضح المتظاهرون أنفسهم، فإن المشكلة هنا تمركزت حول وحشية الشرطة، وليست الكراهية العنصرية. من جهته، ينتمي الضحية، نائل مرزوقي، إلى خلفية مسلمة، وردد بعض المخربين الذين خرجوا إلى الشوارع في حالة هياج شعارات إسلامية متشددة. ومع ذلك، يبقى السبب الجذري وراء الغضب الذي أشعل أعمال الشغب، الشعور بسخط عميق تجاه أسلوب حكم البلاد بوجه عام.

وجاءت أعمال الشغب بمثابة تمديدٍ غير متوقّع لشهور من الاحتجاجات ضد قرار الرئيس إيمانويل ماكرون، رفع سن التقاعد القانوني من 62 إلى 64. اللافت أنه حتى بعض المعترضين على القرار يقرون بأن هذا الإصلاح ضروري لتجنب إشهار إفلاس الصندوق الوطني للمعاشات.

وما أثار حالة من الغضب العميق، حقيقة أن الإجراء الذي اتخذه الرئيس، وبعد إخفاقه في الفوز بأغلبية الأصوات داخل البرلمان، جرى دفعه دفعاً عبر آلية تتجاوز البرلمان ومصمَّمة لاستخدامها في حالات شديدة الاستثنائية.

الحقيقة أن فرنسا لم تتكيف تماماً قط مع نظام الديمقراطية التمثيلية، ودائماً ما تدير حياتها السياسية عبر فضاءين مختلفين؛ البرلمان والشارع. ولم تفلح فرنسا قط في خلق أحزاب سياسية لها عمر طويل بما يكفي لإحداث تغيير في الثقافة السياسية بالبلاد لصالح بناءٍ على صعيد سياسي مؤسسي.

وما بين البرلمان والشارع، حيث يمكن نصب الحواجز، يحلم الفرنسيون برجل يعمل كمبعوثٍ للعناية الإلهية -شخص مثل بونابرت أو بوولنغر أو غامبيتا أو ديغول- يتمكن من تجاوز الفضاءين.

مع مرور الوقت، تحولت الدولة الفرنسية إلى وحش مرتفع التكلفة يعمل على خمسة مستويات: مجتمعية وإدارية وإقليمية ومركزية وأوروبية. وفي ظل التغييرات المتسارعة في مجالات المعلومات والمعرفة والتكنولوجيا، غالباً ما يقف هذا الوحش خلف أحداث على أرض الواقع. وحتى وقت ليس ببعيد، كانت لدى فرنسا وزارة تخطيط تضع خططاً خمسية على النسق السوفياتي، والتي سرعان ما كان الزمن يتجاوزها حتى قبل الإعلان عنها.

وانطلاقاً من قناعتها بأنها الأعلم، قررت الدولة في وقت قريب توزيع مليارات اليورو على المزارعين لإعدادهم لمواجهة أحدث «القضايا الوطنية» المثيرة للقلق: التغييرات المناخية. إلا أن المسؤولين البيروقراطيين الذين وزعوا الأموال سرعان ما أدركوا أن المزارعين تكيفوا بالفعل مع المشكلة عبر سلسلة واسعة من السبل المتنوعة، من دون انتظار نفحات كرم آلهة الأوليمب.

منذ قرابة نصف قرن، تحدث آلان بيرفيت في كتابه الأكثر مبيعاً «العلّة الفرنسية»، عن وجود عجز ديمقراطي في المنظومة الفرنسية.

وألقى بيرفيت، البارون الديغولي، اللوم على المواطنين الذين، بسبب طبيعتهم المتمردة، عصوا قادتهم المنتخبين ديمقراطياً، ما جعل من الصعب تنفيذ الإصلاحات الضرورية أو الإبقاء على القيادات الجيدة، أمثال الجنرال ديغول، في السلطة.

وشرح بيرفيت أن الديمقراطية ليس بمقدورها حل المشكلات على النحو الذي يجري به إعداد وتقديم القهوة سريعة التحضير. وأعرب عن اعتقاده أن القائد الفرنسي بحاجة إلى وقت كي ينجز أموراً عظيمة مقدَّرٌ له إنجازها من أجل الأمة. إلا أن الوقت تحديداً هو ما يتعذر على المواطنين توفيره لقائدهم.

وتمخض مثل هذا الطرح اليوم عن شائعات حول سعي ماكرون لإيجاد سبيل للفوز بفترة رئاسية ثالثة، الأمر الذي يحظره القانون. وبطبيعة الحال، يمكن إنجاز هذا الأمر عبر عقد استفتاء دستوري وإبرام صفقات سياسية مشبوهة.

ومع ذلك، من غير المحتمل أن تشفى العلّة التي تعانيها فرنسا من خلال هذه الحيل. في الواقع، شهدت فرنسا خلال العقود الخمسة أو الستة الماضية تغييراً كبيراً في توازن القوى بين الدولة والمجتمع. اليوم، أصبح المجتمع الفرنسي أفضل تعليماً بكثير، وأكثر ثقة بالنفس واطلاعاً وجرأة عن الدولة الفرنسية التي أصبحت في المقابل أكثر تكلفة وغطرسة وأقل كفاءة.

لقد فقد «الوحش البارد»، مثلما يطلق الفرنسيون على الدولة، احتكاره للمعلومات، ويبدو عاجزاً عن خلق سبل تفاعل جديدة مع المجتمع. وحسبما كشفت «الاضطرابات» الأخيرة، فإن سياسة ضخ الأموال في وجه المشكلات تفتقر إلى الفاعلية.

جدير بالذكر هنا أن الضواحي التي اشتعلت هي ذاتها التي استثمرت فيها الدولة الفرنسية أكثر من 30 مليار يورو من أجل «تحسين» الظروف بها خلال الأعوام الـ20 الماضية. أما النتيجة، فكانت خلق جيل كامل من الأشخاص «المدعومين» الذين يجري التعامل مع خلفياتهم العرقية و-أو الدينية بوصفها مبرراً لتلقي إعانات حكومية في صور مختلفة.

ومع ذلك، فإنه مثلما أنه لا يمكن للمرء أن يعيش على الخبز فقط، فإنه لن يشعر بالامتنان والطاعة من خلال الإعانات فقط.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

العلّة الفرنسية تضرب من جديد العلّة الفرنسية تضرب من جديد



GMT 20:18 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

مؤتمر الصحفيين السادس.. خطوة للأمام

GMT 14:59 2024 الثلاثاء ,03 أيلول / سبتمبر

مشاهد مُستَفِزَّة.. “راكبينكم راكبينكم..”!

GMT 06:36 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

… لأي قائمة يسارية ديمقراطية نصوت ؟!

GMT 06:23 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

ماذا قال يمامة؟

GMT 06:16 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

مشكلة إصلاح التعليم

الملكة رانيا تربعت على عرش الموضة بذوقها الراقي في 2024

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 07:41 2024 الأربعاء ,25 كانون الأول / ديسمبر

ترامب يعلن عزمه على استعادة تطبيق عقوبة الإعدام فور تنصيبه
  مصر اليوم - ترامب يعلن عزمه على استعادة تطبيق عقوبة الإعدام فور تنصيبه

GMT 09:43 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

GMT 05:12 2024 الخميس ,05 كانون الأول / ديسمبر

تصريح عاجل من بلينكن بشأن اتفاق وقف إطلاق النار في غزة

GMT 09:08 2018 السبت ,24 آذار/ مارس

لعبة Sea of Thieves تتوافر مجانا مع جهاز Xbox One X

GMT 08:25 2024 الثلاثاء ,10 كانون الأول / ديسمبر

طائرة "مناحم بيغن" تتحول لفندق ومطعم

GMT 21:48 2021 الجمعة ,12 شباط / فبراير

بالميراس يقترب من التعاقد مع دييجو كوستا

GMT 18:37 2020 الثلاثاء ,29 كانون الأول / ديسمبر

شركات المحمول تتجه لرفع أسعار الخدمات خلال 3 شهور

GMT 08:43 2020 الأحد ,20 كانون الأول / ديسمبر

منظمة الصحة في ورطة بسبب "التقرير المفقود" بشأن "كورونا"

GMT 07:47 2020 الجمعة ,18 كانون الأول / ديسمبر

تطورات جديدة في واقعة الاغتصاب الجماعي لفتاة داخل فندق

GMT 00:41 2020 الجمعة ,18 كانون الأول / ديسمبر

عمر ربيع ياسين يكشف آخر كواليس معسكر منتخب مصر

GMT 12:05 2020 الجمعة ,04 كانون الأول / ديسمبر

فيفا عبر إنستجرام يبرز نجوم مصر محليا وقاريا

GMT 07:41 2020 الخميس ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

أسعار الفاكهة في مصر اليوم الخميس 19 تشرين الثاني/نوفمبر 2020

GMT 01:42 2020 الثلاثاء ,06 تشرين الأول / أكتوبر

بايرن ميونخ يعلن ضم موتينج ودوجلاس كوستا في أقل من نصف ساعة

GMT 22:56 2020 الخميس ,01 تشرين الأول / أكتوبر

تسريب جديد للمُقاول الهارب محمد علي "يفضح" قطر
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon