توقيت القاهرة المحلي 14:42:22 آخر تحديث
  مصر اليوم -

دوغين بين الآيديولوجي والجيواستراتيجي!

  مصر اليوم -

دوغين بين الآيديولوجي والجيواستراتيجي

بقلم - رضوان السيد

من أكثر من عقدٍ من الزمان نسمع عن ألكسندر دوغين وتصوراته الآيديولوجية والاستراتيجية المسيطرة على بوتين فيما يزعمونه. وبغضِّ النظر عن مسألة التأثير على بوتين وهل هي صحيحة أم لا؛ فإنّ تصورات الرجل وأفكاره يختلط فيها الآيديولوجي بالجيواستراتيجي بالمستقبل الديجيتالي للعالم. ولهذه الناحية فإنه يشبه من بعيد جورج أورويل وكتابه: «1984»، ويشبه في الحاضر كتابات نوح هراري التي تغيب فيها الآيديولوجيا إنما يحضر بقوة الديجيتالي والذكاء الصناعي وشبه روايات الخيال العلمي كما كان يسمى. وبالطبع، فإنّ هذا البُعد الثالث التكنولوجي في الأساس تحضر فيه عجائب وغرائب وتوقعات شطاحة وحقائق اعتبارية Virtual Realities، ولا يعني ذلك أننا أمام روايات جول فيرن من جديد، فما يسمى التقدم العلمي صار شديد الهول ولا يمكن تجاهله، وما يكون أسطورة مثل العملة الرقمية، لا يلبث أن يصير حقيقة. وهذه أمورٌ تنطبق على شتى مجالات الحياة الإنسانية والأُخرى الطبيعية أو الكونية. وما أريد الوصول إليه لا يتصل مباشرة بالإلغاء التكنولوجي للإنسان؛ لولا أنّ دوغين - بخلاف هراري - يضع كل هذا الإلغاء للإنسان والحضارة على عاتق الإنسان الغربي السائر نحو عدمية غير إنسانية، وفناءٍ محقق إنما بعد أن يُهلك الآخرين كل الآخرين!

إنّ هذه التصورات كانت في البداية من صناعة اليسار الراديكالي، وحتى جورج أورويل قيل في أربعينات القرن الماضي؛ إنه من هذا التيار. وعندما عادت لمعات الآيديولوجيا في الستينات والسبعينات من القرن الماضي، اتخذت سِمات نقد الخطاب الاستعماري أي الذي كان سائداً تجاه المستعمرين، ولا يزال باقياً لدى اليمين. كتاب إدوارد سعيد: الاستشراق (1977) صار تياراً بحثياً دخل عليه هنود وعرب ومن أميركا اللاتينية ويابانيون، وتارة يجري فيه الحديث عن «مركزية» الغرب، وطوراً عن نفاقه الليبرالي (!). وفي السنوات الأخيرة صار النقض وليس النقد غلّاباً وضد الليبرالية الغربية بالذات باعتبارها رأس الشر، وهي تدمّر نفسها في الوقت الذي تدمّر فيه العالم!

هذا النقد اليساري الراديكالي هو نقدٌ آيديولوجي بالطبع، لكنْ ليست له نتائج. فمعظم هؤلاء الذين يكرهون أميركا ما كانوا يبحثون عن بدائل في النموذج الصيني أو الروسي. فهم نتاج الثقافة الغربية نفسها وكانوا ينتقدونها من داخلها، ويتطلبون العودة إلى قيم التنوير وأزمنته؛ ولذلك يدينهم الراديكاليون الجدد (مثل وائل حلاق مع إدوارد سعيد!) باعتبار أنّ العلة كما سبق القول هي في الليبرالية ذاتها وهي اختراع تآمري غربي!
لا يزال النقد الآيديولوجي اليساري ضد الغرب موجوداً وقوياً. بيد أنّ مفكري اليمين في أوروبا وأميركا هم الذين يقودونه وباتجاه تصوراتٍ أُخرى للدولة والمجتمع الرقمي والأمة والسيادة وسائر المفاهيم الاستراتيجية.

المفكران اليساريان نغري وهارت كتبا الكتاب الشهير: الإمبراطورية، وكانا بذلك واستناداً لفهم معين للعولمة، ولزمن الهيمنة الأميركية، يتحدثان عن إمبراطورية من نوعٍ جديد. وقد استعار ألكسندر دوغين المصطلح وتحدث بمضامين أُخرى عن الإمبراطوريات الجديدة التي تستخدم بدائع التقنيات لتسيطر على العالم، وتُلغي القوميات والسيادة والأديان غير البروتستانتية والتقاليد الأخلاقية. ولذلك فهناك موجة عالمية مضادة تتزعمها روسيا للدفاع عن نفسها و«مجالها الحيوي» وعن العالم.

 لقد نجحت لفترة الآيديولوجيات الإمبراطورية الضخمة مثل الفاشية والرأسمالية والشيوعية. والمطلوب اليوم الدفاع عن قيم وممارسات وسياسات ما قبل هذه الظواهر إنما من دون العودة إليها كما كانت. الإمبراطورية الجديدة قضت على المجتمعات والنظم التقليدية، وجاءت العولمة التي من طريقها يجري إنشاء الإمبراطورية العظمى. روسيا مخترَقة. وحتى الصين وكوريا الجنوبية تنتشر فيهما البروتستانتية ومن ورائهما أميركا. لا أمل لروسيا إلا في الأوراسية التي تضم روسيا والصين وأقطار «الخلافة» الإسلامية وإيران والهند لحفظ الهوية والانتماء والسيادة في هذا المَتَحد؛ وبخاصة أنّ الإمبراطورية الجديدة في حالة هجوم تساندها العولمة الصاعدة في كل مكان. هنا يأتي شبح الحرب ذات الوجهين: الوجه الداخلي من أجل فرض التماسُك ومنع الاختراقات، والوجه الخارجي بمصادمة الإمبراطورية في حافاتها الضعيفة والمعرَّضة مع أخطار السلاح النووي.

إنّ الواضح أنّ إقبالنا على تلخيص أفكار دوغين الاستراتيجية، سببه مقتل ابنة دوغين في سيارتها بانفجار أو إطلاق نار. ولا داعي لتصديق هذه الرواية أو تلك عن دورٍ لأوكرانيا في عملية اغتيالٍ بداخل روسيا الاتحادية! ومع أنّ الجغرافيا السياسية لهذا التصور الشاسع تبدو غير منطقية ولا يمكن إحقاقها؛ فإنّ المجال ينفتح على حربٍ بل حروب للاستنقاذ من العولمة!

كان هنتنغتون يفرّق بين الآيديولوجيا والثقافة، فيربط الآيديولوجيا بالاعتقاد وبالجيوسياسي. ومع سقوط الاتحاد السوفياتي قيل إنّ الصراع الآيديولوجي انتهى. والصراعات صارت ثقافية وحضارية، وعلى رأسها الصراع بين الديمقراطية الغربية المنتصرة وحضارة الإسلام أو ثقافته التي تملك «حدوداً دموية».

هل صحيح أنّ عصر الآيديولوجيا مضى وانقضى؟ لكأنما الآيديولوجيا لا تقوم إلا في الصراع بين الرأسمالية والشيوعية (!). في زمن الهيمنة (1990 - 2010) عادت عشرات الآيديولوجيات إلى الحيوية والتجدد لكنها هذه المرة لا تبدو ذات قوة أو تفوق أخلاقي. فتصور دوغين الجيوسياسي يقوم على آيديولوجيا لا يمكن تسويغ التصور الشاسع بها. ثم من يصدّق أنّ الولايات المتحدة إنما تتحدى الصين بتايوان من أجل الحرية والديمقراطية. إنّ التعليل الجيوسياسي للحروب واضح، ولا يحتاج إلى آيديولوجيا أو أنّ الاقتناع الآيديولوجي لا يمكن تسويغه بنظرية شمولية.

ولماذا نبتعد كثيراً؟ فقد ظهرت «القاعدة» وظهر «داعش» على أسس آيديولوجية أو دوغمائية صلبة. لكن لولا غزو أفغانستان والعراق (وهما حربان في الجيوسياسي وليس الآيديولوجي)؛ فإنّ قيام «القاعدة» و«داعش» ما كان يمكن تصوره، رغم أنّ هذا الإسلام المتشدد موجود في غير مكان!

ثم إنّ الأوراسية في الأصل هي فكرة طرحها مستشار الأمن القومي الأميركي الأسبق زبيغنيو بريجنسكي. وبالطبع ما كان يريد بها أن تصارع الولايات المتحدة (!).

ولننظر في الحرب الروسية - الأوكرانية التي

 تحمست لها الولايات المتحدة وبريطانيا كثيراً: أين الآيديولوجيا فيها؟ الرئيس بوتين يعتقد أنّ الأميركيين يريدون محاصرة روسيا بالناتو. فالصراع جيواستراتيجي ويُعلَّل بالأخطار على الأمن القومي الروسي، ولا يُفهمُ باعتباره صراعاً بين الفاشية (وجهة نظر روسيا) والديمقراطية (كلام أميركا). وألكسندر دوغين يتحدث عن المجال الحيوي لروسيا؛ وهي مقولة استخدمها النازيون والفاشيون، فكيف تسير فيها روسيا التي تقول إنها تقاتل ضد الفاشية في أوكرانيا؟! ما عادت الآيديولوجيا رغم كثرة تكرار التحدث بمفرداتها. إنما الذي عاد الصراع في الجيوسياسي والجيواستراتيجي!

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

دوغين بين الآيديولوجي والجيواستراتيجي دوغين بين الآيديولوجي والجيواستراتيجي



GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

GMT 10:15 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

القديم والجديد؟!

GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

GMT 12:35 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
  مصر اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 12:26 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف
  مصر اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف

GMT 00:04 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

«صاحبك راجل» يعيد درة للسينما بعد غياب 13 عامًا
  مصر اليوم - «صاحبك راجل» يعيد درة للسينما بعد غياب 13 عامًا

GMT 04:08 2024 الجمعة ,13 كانون الأول / ديسمبر

أوستن يبحث مع نظيره الإسرائيلي الأحداث في سوريا

GMT 10:04 2024 الأربعاء ,11 كانون الأول / ديسمبر

بلينكن يطالب بتأمين أي مخزونات للأسلحة الكيميائية في سوريا

GMT 00:03 2024 الجمعة ,13 كانون الأول / ديسمبر

حكيمي علي رأس المرشحين للفوز بجائزة أفضل لاعب في أفريقيا

GMT 05:32 2024 الخميس ,05 كانون الأول / ديسمبر

العملة المشفرة بتكوين تسجل مئة ألف دولار للمرة الأولى

GMT 15:09 2024 الجمعة ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

الحكومة المصرية تمنح أموالاً "كاش" لملايين المواطنين

GMT 17:19 2021 الثلاثاء ,17 آب / أغسطس

حكم صيام الأطفال يوم عاشوراء

GMT 18:05 2021 الثلاثاء ,15 حزيران / يونيو

خالد جلال يُعلن قائمة البنك الأهلي لمواجهة انبي
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon