بقلم - رضوان السيد
ما فهمت ملاحظة الرئيس الأوكراني قبل أيام، أنّ الروس انزعجوا عندما حاول زيلينسكي أو أحد مساعديه التحدث إلى إدارة مدينة ماريوبول المحاصرة بالروسية وليس بالأوكرانية! فكّرتُ وسألت فقيل لي، أنّ الرئيس ربما أراد إظهار تسامُحه وأنه لا يكره الروس رغم حربهم على أوكرانيا. أو ربما تحدث مساعدو الرئيس بالروسية وكان الأمر متعلقاً بشأن إغاثي أو إنساني ليثيروا تعاطفاً بين المقاتلين الروس مع المدنيين المنكوبين بالغزو والحصار. ولستُ من علماء اللغات، لكنني أعرف أنّ اللغتين متقاربتان ومن السلالة نفسها، وإن ظلتا لغتين، وليس لهجة فرعية على لغة أم. إنما ليس هذا هو السؤال، بل السؤال عن علاقة اللغة بالهوية، وهي قضية أُثيرت من جديد في زمنَي الاستعمار والعولمة. وهكذا، فإنّ كلام ابن خلدون أنّ المغلوب مولعٌ بتقليد الغالب ليس على إطلاقه. ففي أزمنة الحروب حتى القديم منها تتعملق الهويات، واللغة الخاصة هي التي تتضمن ثقافتها ومقدساتها ورموزها. بمعنى أنه في أزمنة الحروب والأزمات بين الدول والأُمم يجري التأكيد على الاختلاف بواسطة الهويات المختلفة التي تكون لها سمتان: الخصوصيات الإثنية واللغات المختلفة. وفي تاريخ الطبري أنّ المرابطين المواجهين للروم فيما وراء حلب أسروا بطريقاً - وكل ضابط كبير هو بطريقٌ عندهم! – فتحدث إليهم بعربية فصحى ممتازة، ولولا أنه أشقر لظنوه «من عرب الروم»؛ لكنه أكد لهم أنه رومي أصيل كما يقال، وإنما قضى سنوات شبابه وكهولته في ثكنات الحدود فأتقن العربية وصار يتكلم ويكتب بها ويحقق مع الأسرى والمتسللين، ويشارك في تدوين العهود والاتفاقيات التي تُكتب باللغتين! وعلى أي حال، ما اقتنع المرابطون بهذا التعليل لقدرة الرومي الأشقر على التكلم بالعربية من دون لحن، وعمدوا إلى إطلاق سراحه في أول صفقة لتبادل الأسرى، ليتخلصوا من قلق الحيرة والغرابة والإزعاج (!). وهناك قصة أُخرى من القرن التاسع الميلادي بالأندلس، حيث يشكو كاهنٌ إسباني من أنّ جمهرة من الشبان الإسبان أُغرموا بلسان الفاتحين المسلمين، وصاروا يتكلمون العربية فيما بينهم ويكتبون بها الأشعار. ومع أنهم ما اعتنقوا الإسلام، فقد اعتبر الكاهن الأمر خيانة للدين وللتقاليد الثقافية العريقة.
ولا ننسى أنّ الإحياء اللغوي الهندي والعربي إنما حدث في زمن الاستعمار. ومنذ ما قبل أيام غاندي ومحمد عبده كان هناك حديث عن الغزو الثقافي المقارن للغزو العسكري، وانصرافٌ إلى إحياء وتحديث وتجديد لغة الهوية والدين. بيد أنّ الهوية المتجددة ليست ديناً فقط؛ بدليل ما قام به أدباء المهجر الشوام في ديار الاغتراب من إحياءٍ وتجديدٍ للعربية بالنثر والشعر وهم في غالبيتهم العظمى من المسيحيين.
وفي زمان العولمة عاد ازدهار الهويات، لكنه هنا ليس من طرفٍ واحدٍ، بل هو من الطرفين. ففي الوقت الذي يتشبث فيه المهاجرون في أوروبا وأميركا بالهوية الخاصة ورموزها الدينية واللسانية خشية الذوبان، تظهر عند الطرف الآخر الشعبويات التي تحاول إحياء صورة مصنوعة عن الهوية الأصيلة. لكنها هنا لا تعمل على إحياءٍ ديني أو لغوي؛ بل تنتصر للتمايز والاختلاف ذوباناً وزوالاً، وهؤلاء يعتبرون تقاليد المهاجرين الدينية الوطنية تهديداً للحضارة الفرنسية. ويريد المتابعون تقسيم ظواهر الهوية أو خيالاتها إلى فئتين: الأولى آسيوية، وفيها تستيقظ الهوية على مزيجٍ من الدين والإثنية. والأخرى أوروبية أو غربية، وهي أكثر تركيزاً على الاختلاف الثقافي والحضاري والديني. وقد كان الرئيس الفرنسي الأسبق جيسكار ديستان يريد النصّ في ميثاق الاتحاد الأوروبي على المسيحية باعتبارها ركناً من أركان هوية أوروبا التاريخية، لكن الأمر لم ينجح! وفي النهاية، جرى الاكتفاء برمزية شارلمان باعتباره أباً للوحدة الأوروبية وهو شخصية مشتركة بين الفرنسيين والألمان وحسب!
يقول الفيلسوف كوامي أنطوني أبياه في كتابه «أخلاقيات الهوية» (2005)، إنّ أي ثقافة لا تمثل الاختلاف فحسب، بل زوال الاختلاف أيضاً! وهو يعني أنه في زمن ثقافة الحقوق والاستحقاقات، التي تقودها المؤسسات الدولية الثقافية والاستراتيجية التي أنتجها الغرب، لا يعود هناك مكانٌ للتمييز أو للأفضلية، ومن ضمن هذه الثقافة الحق في «الحقوق المتساوية» داخل الدولة، والحق لكل قومية في إنشاء دولة ولو بالانفصال عن الكيان الأكبر والمتعدد. وهذا هو الذي حصل بشرق أوروبا بعد سقوط الاتحاد السوفياتي. لقد كان التركيز على تمايز الجمهوريات الإسلامية بآسيا الوسطى والقوقاز، وما تنبه الكثيرون إلى أنّ الذاكرة التاريخية والأحقاد التاريخية واللغات المختلفة موجودة أيضاً في جمهوريات البلطيق الصغيرة على سبيل المثال. وإذا كانت إستونيا الصغيرة تملك هذه الذاكرة، فلماذا لا تمتلكها جمهورية أوكرانيا الكبيرة أو شعبها أو نخبتها؟! ومن جهة أُخرى، إذا كانت «روسيا الاتحادية» - التي لا تزال فيها إثنيات تريد الاستقلال - قد تجاهلت انفصال جمهوريات البلطيق أو احتقرتها؛ فإنها لا تستطيع تجاهُل انفصال أوكرانيا الكبيرة التي كانت تُسمَّى روسيا الصغرى! وإذا كان الاتحاد السوفياتي الاشتراكي ما اعتبر القوميات مسوِّغاً لإقامة دول مستقلة (مع أنه أبقى على الحكم الذاتي فيها معترفاً باختلافها!)؛ فإنه وقد صار قلبه جمهورية أو دولة قومية، يتناقض عندما لا يريد الاعتراف بدولٍ مستقلة للقوميات في محيطه صغيرة كانت أو كبيرة! وعلى أي حال وفي جدالية لا تنتهي؛ فإنّ الرئيس الروسي لا يتحدث في حربه عن حقوق القوميات أو عدمها؛ بل يتحدث عن إحاطة الأطلسي به إحاطة السِوار بالمعصم وهو حلفٌ شاكي السلاح ومنه النووي!
كنا نعتبر الهوية معطى إثنو - ثقافياً خارج أوروبا. وهي الآن تتوهج على وجه الخصوص بشرق أوروبا. وستبقى عنصر تفجير هناك وفي البلقان، ولا ندري ماذا يحمله المستقبل للبوسنة والهرسك ولكوسوفو.
سمى فوكوياما كتابه الصادر عام 2018 «الهوية، مطلب الكرامة وسياسات الاستياء». وبين الكرامة والاستياء نشبت وتنشب نزاعات كثيرة، والله المستعان.