توقيت القاهرة المحلي 22:45:33 آخر تحديث
  مصر اليوم -

مشكلات الهوية وتعقيداتها وزمن الحرب!

  مصر اليوم -

مشكلات الهوية وتعقيداتها وزمن الحرب

بقلم - رضوان السيد

ما فهمت ملاحظة الرئيس الأوكراني قبل أيام، أنّ الروس انزعجوا عندما حاول زيلينسكي أو أحد مساعديه التحدث إلى إدارة مدينة ماريوبول المحاصرة بالروسية وليس بالأوكرانية! فكّرتُ وسألت فقيل لي، أنّ الرئيس ربما أراد إظهار تسامُحه وأنه لا يكره الروس رغم حربهم على أوكرانيا. أو ربما تحدث مساعدو الرئيس بالروسية وكان الأمر متعلقاً بشأن إغاثي أو إنساني ليثيروا تعاطفاً بين المقاتلين الروس مع المدنيين المنكوبين بالغزو والحصار. ولستُ من علماء اللغات، لكنني أعرف أنّ اللغتين متقاربتان ومن السلالة نفسها، وإن ظلتا لغتين، وليس لهجة فرعية على لغة أم. إنما ليس هذا هو السؤال، بل السؤال عن علاقة اللغة بالهوية، وهي قضية أُثيرت من جديد في زمنَي الاستعمار والعولمة. وهكذا، فإنّ كلام ابن خلدون أنّ المغلوب مولعٌ بتقليد الغالب ليس على إطلاقه. ففي أزمنة الحروب حتى القديم منها تتعملق الهويات، واللغة الخاصة هي التي تتضمن ثقافتها ومقدساتها ورموزها. بمعنى أنه في أزمنة الحروب والأزمات بين الدول والأُمم يجري التأكيد على الاختلاف بواسطة الهويات المختلفة التي تكون لها سمتان: الخصوصيات الإثنية واللغات المختلفة. وفي تاريخ الطبري أنّ المرابطين المواجهين للروم فيما وراء حلب أسروا بطريقاً - وكل ضابط كبير هو بطريقٌ عندهم! – فتحدث إليهم بعربية فصحى ممتازة، ولولا أنه أشقر لظنوه «من عرب الروم»؛ لكنه أكد لهم أنه رومي أصيل كما يقال، وإنما قضى سنوات شبابه وكهولته في ثكنات الحدود فأتقن العربية وصار يتكلم ويكتب بها ويحقق مع الأسرى والمتسللين، ويشارك في تدوين العهود والاتفاقيات التي تُكتب باللغتين! وعلى أي حال، ما اقتنع المرابطون بهذا التعليل لقدرة الرومي الأشقر على التكلم بالعربية من دون لحن، وعمدوا إلى إطلاق سراحه في أول صفقة لتبادل الأسرى، ليتخلصوا من قلق الحيرة والغرابة والإزعاج (!). وهناك قصة أُخرى من القرن التاسع الميلادي بالأندلس، حيث يشكو كاهنٌ إسباني من أنّ جمهرة من الشبان الإسبان أُغرموا بلسان الفاتحين المسلمين، وصاروا يتكلمون العربية فيما بينهم ويكتبون بها الأشعار. ومع أنهم ما اعتنقوا الإسلام، فقد اعتبر الكاهن الأمر خيانة للدين وللتقاليد الثقافية العريقة.

ولا ننسى أنّ الإحياء اللغوي الهندي والعربي إنما حدث في زمن الاستعمار. ومنذ ما قبل أيام غاندي ومحمد عبده كان هناك حديث عن الغزو الثقافي المقارن للغزو العسكري، وانصرافٌ إلى إحياء وتحديث وتجديد لغة الهوية والدين. بيد أنّ الهوية المتجددة ليست ديناً فقط؛ بدليل ما قام به أدباء المهجر الشوام في ديار الاغتراب من إحياءٍ وتجديدٍ للعربية بالنثر والشعر وهم في غالبيتهم العظمى من المسيحيين.
 

وفي زمان العولمة عاد ازدهار الهويات، لكنه هنا ليس من طرفٍ واحدٍ، بل هو من الطرفين. ففي الوقت الذي يتشبث فيه المهاجرون في أوروبا وأميركا بالهوية الخاصة ورموزها الدينية واللسانية خشية الذوبان، تظهر عند الطرف الآخر الشعبويات التي تحاول إحياء صورة مصنوعة عن الهوية الأصيلة. لكنها هنا لا تعمل على إحياءٍ ديني أو لغوي؛ بل تنتصر للتمايز والاختلاف ذوباناً وزوالاً، وهؤلاء يعتبرون تقاليد المهاجرين الدينية الوطنية تهديداً للحضارة الفرنسية. ويريد المتابعون تقسيم ظواهر الهوية أو خيالاتها إلى فئتين: الأولى آسيوية، وفيها تستيقظ الهوية على مزيجٍ من الدين والإثنية. والأخرى أوروبية أو غربية، وهي أكثر تركيزاً على الاختلاف الثقافي والحضاري والديني. وقد كان الرئيس الفرنسي الأسبق جيسكار ديستان يريد النصّ في ميثاق الاتحاد الأوروبي على المسيحية باعتبارها ركناً من أركان هوية أوروبا التاريخية، لكن الأمر لم ينجح! وفي النهاية، جرى الاكتفاء برمزية شارلمان باعتباره أباً للوحدة الأوروبية وهو شخصية مشتركة بين الفرنسيين والألمان وحسب!
يقول الفيلسوف كوامي أنطوني أبياه في كتابه «أخلاقيات الهوية» (2005)، إنّ أي ثقافة لا تمثل الاختلاف فحسب، بل زوال الاختلاف أيضاً! وهو يعني أنه في زمن ثقافة الحقوق والاستحقاقات، التي تقودها المؤسسات الدولية الثقافية والاستراتيجية التي أنتجها الغرب، لا يعود هناك مكانٌ للتمييز أو للأفضلية، ومن ضمن هذه الثقافة الحق في «الحقوق المتساوية» داخل الدولة، والحق لكل قومية في إنشاء دولة ولو بالانفصال عن الكيان الأكبر والمتعدد. وهذا هو الذي حصل بشرق أوروبا بعد سقوط الاتحاد السوفياتي. لقد كان التركيز على تمايز الجمهوريات الإسلامية بآسيا الوسطى والقوقاز، وما تنبه الكثيرون إلى أنّ الذاكرة التاريخية والأحقاد التاريخية واللغات المختلفة موجودة أيضاً في جمهوريات البلطيق الصغيرة على سبيل المثال. وإذا كانت إستونيا الصغيرة تملك هذه الذاكرة، فلماذا لا تمتلكها جمهورية أوكرانيا الكبيرة أو شعبها أو نخبتها؟! ومن جهة أُخرى، إذا كانت «روسيا الاتحادية» - التي لا تزال فيها إثنيات تريد الاستقلال - قد تجاهلت انفصال جمهوريات البلطيق أو احتقرتها؛ فإنها لا تستطيع تجاهُل انفصال أوكرانيا الكبيرة التي كانت تُسمَّى روسيا الصغرى! وإذا كان الاتحاد السوفياتي الاشتراكي ما اعتبر القوميات مسوِّغاً لإقامة دول مستقلة (مع أنه أبقى على الحكم الذاتي فيها معترفاً باختلافها!)؛ فإنه وقد صار قلبه جمهورية أو دولة قومية، يتناقض عندما لا يريد الاعتراف بدولٍ مستقلة للقوميات في محيطه صغيرة كانت أو كبيرة! وعلى أي حال وفي جدالية لا تنتهي؛ فإنّ الرئيس الروسي لا يتحدث في حربه عن حقوق القوميات أو عدمها؛ بل يتحدث عن إحاطة الأطلسي به إحاطة السِوار بالمعصم وهو حلفٌ شاكي السلاح ومنه النووي!
كنا نعتبر الهوية معطى إثنو - ثقافياً خارج أوروبا. وهي الآن تتوهج على وجه الخصوص بشرق أوروبا. وستبقى عنصر تفجير هناك وفي البلقان، ولا ندري ماذا يحمله المستقبل للبوسنة والهرسك ولكوسوفو.
سمى فوكوياما كتابه الصادر عام 2018 «الهوية، مطلب الكرامة وسياسات الاستياء». وبين الكرامة والاستياء نشبت وتنشب نزاعات كثيرة، والله المستعان.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

مشكلات الهوية وتعقيداتها وزمن الحرب مشكلات الهوية وتعقيداتها وزمن الحرب



GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

GMT 10:15 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

القديم والجديد؟!

GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

GMT 12:35 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
  مصر اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 12:26 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف
  مصر اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف

GMT 17:17 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب
  مصر اليوم - الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب

GMT 22:45 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

زينة تستعد للمشاركة في الدراما التركية
  مصر اليوم - زينة تستعد للمشاركة في الدراما التركية

GMT 10:46 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

مواقيت الصلاة في مصر اليوم الأربعاء 18 ديسمبر / كانون الأول 2024

GMT 09:03 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

مدينة العلا السعودية كنزاً أثرياً وطبيعياً يجذب السائحين

GMT 10:20 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

إطلالات لا تُنسى لنادين نجيم في عام 2024

GMT 19:37 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

مروة صبري توجّه رسالة لشيرين عبد الوهاب بعد ابتزاز ابنتها

GMT 23:53 2013 الخميس ,28 تشرين الثاني / نوفمبر

إكسسوارات تضفي أناقة وتميُّزًا على مظهرك

GMT 11:54 2024 الإثنين ,06 أيار / مايو

أحذية لا غنى عنها في موسم هذا الصيف

GMT 04:51 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

السجن 50 عاما لامرأة أجبرت 3 أطفال على العيش مع جثة في أميركا

GMT 13:32 2016 الجمعة ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

أرجو الإطمئنان بأن الآتي أفضل

GMT 13:13 2024 الأربعاء ,30 تشرين الأول / أكتوبر

اتفاقية بين مصر وموانئ دبي العالمية لتطوير منطقة حرة عامة

GMT 19:17 2021 الأربعاء ,16 حزيران / يونيو

التشكيل الرسمي لمباراة إنبي والبنك الأهلي
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon