بقلم - رضوان السيد
ما أن انكشفت المجزرة أو المذبحة التي يقال إنّ الجنود الروس ارتكبوها في بلدة بوتشا الأوكرانية، حتى عادت اتهامات الإبادة الجماعية إلى الظهور، مثلما حدث ويحدث في ماريوبول ومدن وبلدات أُخرى. بيد أنّ الأخطر من ذلك أن رؤى ونظريات الانحطاط أو الانحلال في الثقافة والحضارة عادت أيضاً. وهي رؤًى ومقولات وتفسيرات راجت في مطالع القرن العشرين، وتكاثفت بعد الحربين العالميتين. وقد نسيها دُعاتها مع الاستقرار الذي ساد في العالم الغربي بعد الحرب الثانية. فالحضارة الغربية بمظاهرها وظواهرها العمرانية الهائلة بدت سالمةً ومزدهرة. أما الثقافة التي تُعنى بالمقومات الفكرية والمعنوية والقيم الأخلاقية وقضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان فقد اتجهت للتفوق في الصراع الثقافي والأخلاقي من خلال الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهود والمواثيق اللاحقة، التي توّجتها آيديولوجيا التنمية المستدامة للتغطية على مشكلات الفقر والجوع والتلوث البيئي. وفي حين بدا الاتحاد الأوروبي بيئةً للسلام والتقدم؛ فإن الحلف الأطلسي صار حامياً لتلك الحضارة العالمية الكبرى؛ بالسلم القوي والدائم داخل أوروبا على الأقلّ. ووصل الأمر إلى آفاق الحضارة الغربية العالمية، حضارة العالم الخالدة، في نظريات فوكوياما وهنتنغتون وآخرين. وفي هذا السياق التأويلي، فهم الأميركيون والأوروبيون انهيار الاتحاد السوفياتي باعتباره انتصاراً لحضارة العالم الشاملة من جهة، وانضماماً للحضارة الأرثوذكسية إلى ركْب التاريخ المنتصر.
إنّ هذه السردية الطويلة الأمد ظلّت صامدةً رغم حروب الشرق الأوسط ومذابحه وموجات هجراته المليونية. وما استطاعت تصديعها، لا الحروب على الإرهاب، ولا الغزوات المختلفة في أنحاء العالمين العربي والإسلامي. كلها في نظر استراتيجيّي الحضارة المنتصرة جرت وتجري خارج العالم الغربي، وهي بمعنًى من المعاني ضرورية للدفاع في أطراف ذاك العالم المترامي. لقد بدا طريفاً أنّ غربيّي الاتحاد الأوروبي والأطلسي شبّهوا أحياناً ما جرى على بعض المدن الأوكرانية بما حدث في حلب والموصل. وهو تشبيهٌ متأخر يعترف وإن لم يقصد أو ينتبه إلى أنّ هذه المدائن هي أيضاً كانت جزءاً من حضارة العالم!
ما علينا! الحرب الروسية على أوكرانيا ينقسم الاستراتيجيون العسكريون والثقافيون بشأنها إلى فريقين؛ الفريق الذي يعتبرها عودةً للحرب الباردة بين الجبارين، رغم اختفاء حلف وارسو؛ ولذلك يجد من الطبيعي أن يتدخل حلف الأطلسي لحماية أوروبا التي تكفّل بحمايتها في الحرب الباردة. وبخاصةٍ أنّ أوروبا المعاصرة تضاعفت مساحتها تقريباً بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وبذلك تعاظمت مسؤوليات الحماية. أما الفريق الثاني فيعطي «الوحشية» الروسية أبعاداً ثقافيةً وحضارية. وليس لأنّ بوتين يتنكر للعمران الحضاري، بل لأنه يتنكر للثقافة الغربية بأبعادها السوسيولوجية والإنسانية وقيمها الأخلاقية الكبرى. ولأنّ الصين لا تقف موقف الوسيط المنصف والمحايد في نظرهم؛ فإنّ ذلك يُعتبر انتكاسةً حضاريةً تشكّك في كون الحضارة الغربية حضارة العالم بالفعل! هناك بالطبع توافقات عالمية غربية في الأساس على إدارة العالم اقتصاداً وتجارةً وخدمات؛ بيد أن الأصول الحضارية الغربية وقيمها الكبرى ما تزال في نظر استراتيجيين غربيين غريبةً على روسيا والصين ودول وأمم أخرى في العالم!
لماذا فشل الغرب إذن بعد 3 أرباع القرن على قيام مجلس الأمن والإعلان العالمي لحقوق الإنسان؟ هنا أيضاً ينقسم الاستراتيجيون إلى قسمين؛ الأول يقول لأنّ الغربيين تنازلوا كثيراً للصين ولروسيا وتجاهلوا المبادئ التي ينبغي عدم التفريط فيها. والثاني أنّ العطل - كما يقال - في صميم الحضارة الغربية الحديثة والمعاصرة التي خانت دائماً القيم والمثل التي تأسست عليها، فنظرت إلى العوالم الأخرى نظرات دونية، وعاملتهم ببراغماتية، جعلتهم يتشككون في سموق القيم وشمولها، التي يزعم الغربيون الإيمان بها ونشرها في العالم.
وفي الرؤيتين، فإنّ هناك مشكلات استراتيجية كبرى، تبلغ في ضخامتها حدود الأزمة الحضارية. كان الغربيون ينظرون إلى العالم الإسلامي باعتباره الآخر الحضاري الذي يجري الصراع معه على الأرض، وفي عالم الأفكار والقيم. واليوم، يتبين أنّ هناك عالماً ثالثاً غير عالم الأطلسي والعالم الإسلامي، هو العالم الروسي - الصيني، أو الصيني - الروسي. العالم الإسلامي أمكن قهره عسكرياً، أما العالم الآخر فلا يمكن معه القيام بذلك؛ وفي الوقت نفسه لا ينجح معه الاحتكام لمقاييس الأمم المتحدة ومجلس الأمن ومجلس حقوق الإنسان.
لا يرى برتران بادي وفيدال فائدةً في التأويلات الحضارية، لا لجهة أنّ في الحضارة الغربية مشكلات الانحطاط، ولا لجهة أنّ الروس والصينيين ينتمون إلى حضارةٍ أُخرى تمتلك قيماً مختلفة، مثلما جرت محاولات فهم العالم الإسلامي على ذاك النحو. بل هو صراعٌ داخل مجالٍ ثقافي عالمي واحد وعلى الموارد والمجالات الاستراتيجية والشراكة في اقتصادات العالم والنظام الدولي العالمي. إنّ المشاركة تقتضي تفاهماً وتوافقاً على الحصص وعلى التقاسم وعلى مسائل الاعتماد المتبادل. من جهةٍ أخرى، لا يجوز لأي طرفٍ إن لم تعجبه «حصته» أن يلجأ إلى القوة. يمكن لسائر المؤسسات والمنظمات الدولية والإقليمية أن تكون بيئات للنقاش والحوار والإقناع. وهذا هو شأن العمل السياسي والاستراتيجي. لكنْ كما يقال، فإنه عندما تبدأ الحرب تكون السياسة قد انتهت!
وما دام الأمر أمر صراعٍ على الموارد والمجالات، ويتطلب تفاوضاً منصفاً، فما شأن الثقافة بذلك؟ الثقافة - كما يقول ماكس فيبر - تضع قواعد للفهم، الذي يعني الإصغاء لخطاب الآخر ومصالحه، والاستجابة لذلك بقدر الإمكان، لتجنب النزاع المسلَّح وغير المسلَّح. لكنّ الفهم من جهةٍ ثانيةٍ يستدعي مفاهيم متقاربة تتمدد بين القيم والمصالح، أو تقيم صلات بينها. الوسيط التركي في النزاع بين روسيا وأوكرانيا تحدث عن التعارف، أي الإدراك المتبادل لأفكار الآخر ومصالحه، والمعرفة تعني إسقاط حجاب الجهل، كما أنها تعني إمكان الإفادة من أفكار الخصم وفهمه للمصالح المشتركة.
كل هذه النقاشات جرت وتجري، بينما الحرب دائرة. ولا شك أن المهجرين من أوكرانيا ليس بوسعهم الإصغاء للذين يتبادلون الأفكار والإنكار، وإنما يريدون العودة لديارهم.
التوافق على الأسس الفكرية والقيم المشتركة هو الذي صنع النظام الدولي. ولا بد من العودة إليه قبل البحث في اختلافات المفاهيم. قالت كاتبة سيرة المستشارة ميركل كاتي مارتون نقلاً عنها؛ إنّ التفاهم مع بوتين صعب، لكنه ممكن بالدأب والصبر، فروسيا باقية بالجوار، ولن نجد كل يومٍ أحداً مثل غورباتشوف في قيادتها!