توقيت القاهرة المحلي 06:23:49 آخر تحديث
  مصر اليوم -

الدولة والشرعية والعنف

  مصر اليوم -

الدولة والشرعية والعنف

بقلم: رضوان السيد

منذ التسعينات من القرن الماضي، ذهب مفكرون استراتيجيون إلى أنّ قياس ماكس فيبر (1864-1920) لشرعية الدولة بأنها التي يكون من حقها احتكار العنف لم يعد صحيحاً. لأنّ قوى أخرى داخل الدولة صارت تمارس العنف ضد السلطات القائمة أو في حضورها من دون أن تكون تلك السلطات قادرةً على المعالجة أو الإخماد! وقد تفرع على ذلك بحثٌ آخر هو إعادة قراءة أنماط الشرعية باتجاه النقد أو التوسيع. ففيبر نفسه يقول إنّ للشرعية ثلاثة أنماط هي: النمط التقليدي القائم على الأعراف والعادات المتوارثة التي أطبق عليها الناس مثل الأنظمة الملكية. وقد تذكر المراقبون مدى قوة هذا النمط في حفل تتويج الملك البريطاني تشارلز الثالث، وقد ذهبوا إلى أنّ هذه التقاليد شكلاً ومضموناً تبلغ قرابة الألف عام؛ رغم التغير الكبير الذي طرأ عليها. أما النمط الثاني فهو النمط الكارزمي، حيث تتجدد وتقوى «شرعية» زعيمٍ قائمٍ وصل إلى السلطة بأسلوبٍ غير تقليدي، فحقق انتصاراً ردّ به عدواناً أو أسر مخيلة الجمهور بقدراته الخطابية أو الإنجازية. لكنْ إذا كان «القبول» النخبوي أو الشعبي يهبُ نوعاً من الشرعية؛ فهل يمكن المصير إلى اعتباره «نمطاً» رغم أنه لا يتكرر غالباً، أو قد يتحول طغياناً؟ والنمط الثالث هو النمط الدستوري الحديث الذي يقوى ويتمتَّن بالانتخابات الحرة، والانتظامات القانونية التي تُكسبُه الاستمرار العلني المعروف والمتوافق عليه نمطيةً تجعل من المسوَّغ اعتبارها شرعيةً، شأن الأنظمة التي سادت في النظام العالمي الحديث والمعاصر. وهكذا وفي النمطين الأول والثالث يصحُّ القول باحتكار العنف مسوِّغاً للشرعية استقراراً واستمراراً، وتحقيقاً لمتقضيات الشرعية التي تظهر آثارها في أنّ الدولة التي تستحقُّ هذا الاسم، هي التي يتمكن القائمون على السلطة فيها من أن تكون لهم شوكةٌ في الحماية بالداخل، والدفاع أو السيادة تجاه الخارج. وأصل هذا أتصور مقولة توماس هوبز أنّ الدولة هي المخرج الوحيد من «حرب الكل على الكل» وعلى حقّها في احتكار العنف أو منعه تقوم شرعيتها من أجل استمرار الاجتماع الإنساني.

من أين أتى إذن «النمط الجديد» إذا صحَّ التعبير، والذي تبزغ فيه فئة أو فئات بالداخل الاجتماعي تمارس العنف السلطوي متحديةً الشرعية القائمة من دون أن تتمكن السلطات القائمة من إزالتها؟ يعيد مفكرو الأنظمة السلطوية ذلك إلى القرن العشرين وما بعد الحرب الثانية حين شاعت مقولات حروب التحرير بأميركا اللاتينية وأفريقيا وتفاقمت ظواهر العنف الداخلي في أجواء الحرب الباردة بحيث صار ذلك نمطاً من أنماط الصراع بين الجبارين؛ فيتدخل أحدهما أو كلاهما في مناطق نفوذ القوة الأخرى داعماً أو مشجِّعاً. بيد أنّ هذه الممارسات - والتي تنقض أهمَّ وظائف الدولة وميزاتها - تراجعت أو تضاءلت لصالح النمط الحديث للدولة؛ وبخاصةٍ عندما تفوقت الولايات المتحدة ونظامها في الوضع العالمي العام والعلاقات الدولية.

إنّ العقود الأخيرة شهدت استثناءات معتبرة في الوضع العالمي العام لجهة تعددية السلطات التي تدّعي لنفسها حقّ استخدام العنف تارةً لمقاومة سلطةٍ قائمة، وطوراً للحصول على حق تقرير المصير لأقليةٍ مضطَهدة، أو أخيراً من أجل القيام بوظيفةٍ أو مهمةٍ كان على الدولة القيام بها وأعرضت عنها أو عجزت. وهذه الصنوف من العنف المسلَّح بداخل الدول موجودة على الأكثر في العقود الأخيرة في أفريقيا والعالم العربي. والملحوظ أنه يظهر في الغالب في أنظمةٍ حصلت فيها انقلابات عسكرية أو تطورات غير عادية، تحولت إلى ما يشبه «النمط» الذي يعني ضعف الدولة وعجزها عن إنفاذ ممارسة «احتكار العنف». ويشير المحلِّلون إلى أنّ هذه الظاهرة: الدولة/ الميليشيات، ظهرت أولاً بالصومال، ثم انتشرت واستمرت في الحرب الباردة وما بعدها وإلى اليوم.

لقد شاعت في مواجهة هذه الظاهرة المخربة للدولة ووظائفها مصطلحات مثل: الدولة الفاشلة، أو الدولة الانقسامية، أو السلطة التي فقدت شرعيتها. وفي العادة، وعندما يتفاقم العنف بين السلطة القائمة والميليشيات، أن يجتمع مجلس الأمن ويُصدر قراراً أو قرارات، ويضغط تحت الفصل السابع من أجل إنهاء العنف لصالح الدولة. ثم تطورت الممارسة إلى التوسط من أجل وقف النار، والسعي للحوار والمصالحة الداخلية. وخلال ذلك كلّه تتوالى التصريحات بالتحذير تارةً من التدخلات الخارجية، وطوراً بالتحذير من انقسام البلاد وتقتُّتها، أو سواد ظروف الحرب الأهلية.

المؤرخ الكبير الراحل أريك هوبسباوم هو صاحب العبارة المشهورة: في ثلثي الحالات فإنّ مجلس الأمن الموكل إليه صَون الأمن الدولي، يعجز عن اتخاذ القرار بسبب الصراعات بين الدول الكبرى بداخله، أو أنّ قراراته لاستعادة الأمن والاستقرار بالداخل في الدول المضطربة يتعذر إنفاذها! فأما الراديكاليون فيتجاوزون مجلس الأمن وقراراته ويذهبون في بعض الحالات ومن أجل الإنقاذ من العنف، إلى القول بالتقسيم. وقد شاع أنّ هذه الفكرة حملها بعض السياسيين الأميركيين في حالة العراق بعد الغزو. ويذهب فريقٌ آخر إلى اعتبار العنف ناجماً عن المركزية الشديدة في الدولة؛ ولذلك يقترحون الفيدرالية أو الكونفيدرالية. وبالنظر لعدم النجاح في وقف العنف رغم التقسيم أو الفيدرالية في عدة حالات؛ فإنّ فريقاً ثالثاً يذهب إلى الاستمرار بدعم وحدة الدولة، وهي الممارسة السائدة حتى الآن في حالات سوريا وليبيا واليمن. وهناك فريقٌ رابعٌ متشكك من دون أن يطرح بديلاً، فالميليشيات أو قوى ما دون الدولة أو تحتها صار من المتعذر مصالحتها أو تقاسم السلطة معها أو حتى تسليمها السلطة (!) لأنّ حياتها قائمة على ممارسة العنف أو أنّ اقتصادها هو اقتصاد عنف، كما في الميليشيات المنتشرة في دول الساحل الأفريقي منذ عدة عقود- وتارةً باسم الدين، وطوراً باسم الإثنية أو التحرير، وأحياناً من دون اسمٍ ولا عنوان!

تقوم الفكرة الغربية السائدة للدولة أنها لمنع العنف، وتحسين حياة الناس بحيث لا يلجأون للعنف. وصحيح أنّ بعض الدول ما حسّنت عيش الناس، لكنّ الميليشيات ما حسّنت حياة الناس أيضاً، أو فكّرت في ذلك! وقد كان المعتقد أن الناس يخافون من عنف الدولة، لكنّ السائد لدى العرب منذ أعوامٍ وأعوام: الخوف على الدولة من الفوضى ومن الميليشيات. فالمطلوب الدولة والدولة من دون شروط.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الدولة والشرعية والعنف الدولة والشرعية والعنف



GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

GMT 10:15 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

القديم والجديد؟!

GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 10:52 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

انطلاق الدورة الثانية من مهرجان الشارقة للسيارات القديمة
  مصر اليوم - انطلاق الدورة الثانية من مهرجان الشارقة للسيارات القديمة

GMT 10:38 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

واتساب يتيح تحويل الرسائل الصوتية إلى نصوص تشمل العربية
  مصر اليوم - واتساب يتيح تحويل الرسائل الصوتية إلى نصوص تشمل العربية

GMT 11:07 2020 الجمعة ,24 كانون الثاني / يناير

سعر الذهب في مصر اليوم الجمعة 24 كانون الثاني يناير 2020

GMT 00:28 2019 الجمعة ,06 كانون الأول / ديسمبر

خالد النبوي يكشف كواليس تدريباته على معارك «ممالك النار»

GMT 14:08 2019 الإثنين ,02 كانون الأول / ديسمبر

أبرز الأحداث اليوميّة لمواليد برج"الحوت" في كانون الأول 2019

GMT 00:09 2019 الأحد ,01 كانون الأول / ديسمبر

ارتدي جاكيت الفرو على طريقة النجمات

GMT 20:08 2019 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الحكومة تصدر 9 قرارات تهم المصريين "إجازات وتعويضات"

GMT 08:01 2019 الأربعاء ,09 تشرين الأول / أكتوبر

عرض فيلم "الفلوس" لتامر حسني أول تشرين الثاني

GMT 08:44 2019 الإثنين ,16 أيلول / سبتمبر

إنجي علي تفاجئ فنانا شهيرا بـ قُبلة أمام زوجته
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon