بقلم - رضوان السيد
منذ القرن الحادي عشر الهجري - السابع عشر الميلادي، برزت الحاجة في نجد واليمامة على الخصوص إلى السلطة الواحدة من أجل أمن المجتمع وكفايته وإقداره على تنظيم معاشه ومعيشته. فقد توزعت الأمور في صورة قرى وبلدات متناحرة، واضطربت طرق التجارة البعيدة والبينية، وشاع التغالب على السطوة القريبة. وهذا هو الهدف الذي نهض به وإليه الأمير والإمام محمد بن سعود، متخذاً من بلدة الدرعية مستقراً ومنطلقاً في عشرينات القرن الثامن عشر الميلادي. إنّ هذا الوازع للدفع والدفاع، بتعبير ابن خلدون، آثر المؤسِّس أن يستعين على إحقاقه بوازع الدين (الذي يقول بحرمات الدم والعرض والمال) عندما استقبل الشيخ محمد بن عبد الوهاب واحتضن دعوته الإصلاحية. وبالنظر إلى تلك النضالات الملحمية من أجل الاستيعاب والوحدة، بدا لدى المؤرخين المحليين كأنما الأمر هو أمر الدعوة للتوحيد في مواجهة «الشرك». بينما الواقع أنه كان وظلَّ عملاً سياسياً كبيراً، وقد استعان عليه المؤسس كما سبق القول بالوازع الديني، وإلاّ فالشيخ الإصلاحي ما رشّح نفسه لإمرة دينية أو سياسية؛ بل أعان على إحقاق المشروع السياسي لمحمد بن سعود جاعلاً الشرْك قريناً للتشرذم والتجزئة والخروج على طاعة الدولة الجديدة. وهناك أمرٌ آخر قليلاً ما جرى تأكيده أو إبرازه، وهو وعي الجماعة الاجتماعية المدينية والقَبَلية بالحاجة إلى الدولة، والانتصار لها وتأييدها، ولو لم يكن الأمر كذلك لما بقيت الدولة وتجددت بعد الغزو المصري - العثماني. تأسست الدولة السعودية الأولى في عشرينات القرن الثامن عشر، وتجددت في عشرينات القرن التاسع عشر. وهي في الزمانين الأول والثاني تمددت واستوعبت خارج نجدٍ واليمامة لأنّ الغالبية وقفت إلى جانبها بمقتضى الحاجة للأمن والأمان والحياة الطبيعية، وبالطبع فإنّ ذلك هو مقتضى الدين، أولم يكن «الإيلاف» الذي أنعم الله عز وجلّ به على مكة من خلال قريش في القرن السادس الميلادي إطعاماً من جوعٍ وأماناً من خوف؟! لقد بلغ من إعظام العرب القدامى لإنجاز قريش أنْ سمَّوهم: آل الله وقرابينه؛ الناشرين للسلم والكفاية. وهو الأمر الذي قام به آل سعود في قلب الجزيرة وأطرافها طوال ثلاثة قرون. وقد توالت على الإمرة والإمامة منهم خمسة أجيالٍ أو ستة. تظهر شخصية كارزماتية منهم فيلتفّ حولها الجيل الذي عرف عن أسلافهم حفظهم لمصالح الجماعة ومنعتها فيزيلون المتغلبين ويحفظون الولاء والانتماء، ويحققون الكفاية والشوكة.
ما كان مصطلح السلطة الوطنية ولا مفهومها معروفاً في الشرق ولا في الغرب. كانت هناك الإمبراطوريات، وفي المشرق العثمانيون والمتمردون عليهم بين حينٍ وآخر. وما كان السعوديون أباطرة ولا سُعاة لإمبراطورية؛ بل هي دولة الكفاية والشوكة التي تهدف لتحقيق الأمن والأمان والسلام للجزيرة، والتي تسعى دائماً لحماية الحرمين وخدمتهما وتأمين سُبُل الوصول إليهما. وهذا يعني أنه كانت لديهم دائماً رسالة، هي في لغة الزمان رسالة الإسلام، وهذا ما كان يعنيه الدين للناس. فمنذ الدولة السعودية الأولى تتحدث تقارير الرحّالة الأجانب، والقناصل في المحيط عن الأمن والعدل في الديار السعودية، وشدة التمسك بالدين.
ولنصل إلى عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود، وسيطرته عام 1902 على الرياض آتياً من الكويت. في الظاهر ما كان عنده، شأن أسلافه، غير ثلاثة أهداف: إقامة السلطة الواحدة من جديد - ونشر الأمن والعدل اللذين اضطربا عندما تراجعت سلطة الدولة السعودية الثانية - والعودة إلى الحرمين. وهو يكاد يكون الوحيد بين المسيطرين في أعقاب الحرب العالمية الأولى، والذي ما قَبِلَ عروض الخلافة بعد أن ألغاها في تركيا مصطفى كمال. ما بقي أحدٌ من الهاشميين ومن ملوك مصر ومن سادة العراق، ومن جهاتٍ في الهند والجزر الإندونيسية وبلاد ما وراء النهر إلاّ وطمع فيها. أما الملك عبد العزيز، وبالبصر والبصيرة، فقد أدرك أنّ الخلافة ومواريثها مضت وانقضت، ولا بد من الإصغاء لنداء المستجد والجديد. عبد العزيز آل سعود وقبل أن يظهر البترول وبعد ظهوره فهو – إلى جانب ميراث أسلافه - إنما في فهمٍ للتطورات الحديثة، رمى بالفعل إلى إقامة سلطة وطنية ودولة وطنية بمقاييس القرن العشرين. وقد لقي مقاومة داخلية شديدة ليس بسبب الرجعية الدينية فقط؛ بل لأنّ وجاهات الداخل وسياسات الخارج والمحيط ما كانت تريد دولة عربية قوية ومستقلة ومتقدمة بالفعل.
الدولة السعودية الثالثة التي أسسها الإمام ثم الملك عبد العزيز آل سعود (المملكة من سنة 1932) دخلت على نظام الدولة الوطنية الحديثة من أوسع أبوابه. ولذلك وبالإضافة إلى وقوف شعبها معها؛ أمكن لها التجذر في العالم الحديث. وقد تابع ملوك الدولة من أبناء الملك عبد العزيز إكمال هذا البناء المؤسسي بالداخل والخارج على تفاوت؛ إلى أن كان عهد الملك سلمان بن عبد العزيز وثورته، ومن مفرداتها البارزة ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، ونهضويته التنموية والتغييرية، وسواء باتجاهاتها الكبرى بالداخل، أو في ترتيبات العلائق الاستراتيجية مع الخارج. هناك تكبير هائلٌ لحجم الاقتصاد. وهناك اندفاعٌ كبير في الخروج من الإدمان على اقتصاد النفط الريعي. وقبل ذلك وبعده هناك الإطلاق المنقطع النظير لطاقات الشباب لصنع الجديد والمتقدم. ولولا خشية المبالغة والتجاوز لقلت إنها الدولة السعودية الوطنية الرابعة!
إطلاق موجة يوم التأسيس، والتصنيف التاريخي للدول السعودية الثلاث خلال ثلاثمائة عام، المقصود به إطلاق وعي جديدٍ أو الكشف عنه للعراقة الواثقة من جهة، والنهضة الجديدة الشاسعة الآفاق من جهة أخرى.
إنها موجاتٌ تجديدية وإبداعية تقدم وعوداً رائعة للحاضر والمستقبل. فهنيئاً للمملكة في تذكارها ليوم التأسيس قبل ثلاثة قرون. وهنيئاً لها بالعهد الحاضر، عهد الإنجاز لمستقبلٍ زاهر في الزمن والمكان.