توقيت القاهرة المحلي 19:22:03 آخر تحديث
  مصر اليوم -

ماذا جرى في «المدينة على الجبل»؟

  مصر اليوم -

ماذا جرى في «المدينة على الجبل»

بقلم: رضوان السيد

«المدينة على الجبل» تعبير إنجيلي ورمزي لمدينة البراءة والطهر. وقد استعار العبارة المهاجرون الأوائل الذين غادروا أوروبا إبان صراعاتها الدينية إلى بيئة الخلاص في براري أميركا وسهوبها العذراء. وعبر القرون استُخدم التعبير بمعنيين مختلفين فالمحافظون (حتى قبل الأحزاب السياسية) رأوا تفردها بمنأى عن أنظار العالم وشروره. والليبراليون اعتبروها صاحبة رسالةٍ للهداية ونشر أنوار الحرية على مدى العالم.

ماذا يمثّل الرئيس دونالد ترمب في ضوء الرمز الإنجيلي، وبأي تفسير أو تأويل؟ الرجل غير معروفٍ بالتدين، لكن معظم المتدينين الإنجيليين معه، بل أضيفت إليهم كتلة معتبرةٌ من الكاثوليك هذه المرة على وجه الخصوص. ويصرّ المراقبون على أنّ الأميركيين يقع الاقتصاد وتكاليف المعيشة في أولويات اهتمامهم، وهم يأملون أن تتحسن أوضاعهم في الفترة الثانية للرئيس ترمب. بيد أنّ هذا الحدث البارز له سياقٌ عامٌّ منذ عهد الرئيس رونالد ريغان في الثمانينات من القرن الماضي. وقد كانت لدى ريغان تصورات دينية بشأن نهايات العالم. وليس نهايات الاتحاد السوفياتي أو إمبراطورية الشر فقط! ومرةً أخرى لا يبدو أن لدى ترمب الدنيوي جداً أيَّ تصوراتٍ ماورائية، لكنّ المتدينين وفئات أخرى ربما يحمّلونه همومهم الدينية وليس المعيشية وحسب. فلا ينبغي أن ننسى قضايا ومشكلات الأُسرة والجنوسة وتبديل الجنس والإجهاض، وترمب يشاركهم وبوضوح في نصرة هذه القيم المحافظة.

مضت عقود على حملات اليمين واليسار على قيم وترتيبات التنوير الأوروبي والأميركي، والتي قام عليها نظام العالم بعد الحرب العالمية الثانية. وشاع لدى الفلاسفة الفرنسيين (والأميركيين) الجدد اعتبار أنّ تلك المبادئ والقيم كانت حافلةً بوجوه القصور وشكلت تغطيةً لزمن الاستعمار من زمن الليبرالية واقتصاد السوق بعد سقوط الاتحاد السوفياتي والتبشير بالانتصار النهائي للديموقراطيات في زمن العولمة ووسائل الاتصال والذكاء الاصطناعي. فقد رأى فيها هؤلاء ومنذ إدوارد سعيد وتيار التابع والمحافظين الجدد والإنجيليين الجدد مصيراً بائساً لإنسانية الإنسان وغربته ودمار البيئة والحروب العبثية التي اندفعت باتجاهها الولايات المتحدة وخصومها في روسيا والصين. ثم ما لبث أن التحق بهؤلاء جميعاً كبار مفكري الاقتصاد بعد الأزمة العقارية في الولايات المتحدة التي صارت عالمية (2008 - 2009).

إيمانويل تود وآخرون تحدثوا عن انهيار الغرب. ومن ضمن هؤلاء مفكرو النظام الأميركي أو القرن الأميركي مثل ستغلتز وجوزف ناي وميرشهايمر وحتى فريد زكريا. وهؤلاء يقيسون حالة العالم على حالة الولايات المتحدة التي يسودها انقسام داخلي عميق، وتمردات على سيطرتها في أنحاء العالم، وقد واجهت أميركا - مفارقةً آيديولوجيا القوة الناعمة - التحديات المستجدة بالحروب واستخدام القوة أو التهديد بها. وقد كان المعهود أن يعقب الحرب القصيرة أو الطويلة سلامٌ مؤقتٌ أو طويل، أمّا العقدان الأخيران فيشيران إلى أن الحروب الأميركية بدعوى إحلال الديمقراطية أو بناء دول الاستقرار، يعقبها اضطرابٌ هائلٌ وانتشار الميليشيات، أو نزاعات كسر العظم مثلما يحدث في حرب أوكرانيا وحروب إسرائيل والتوتر من حول تايوان وبحر الصين، والميليشيات المتطرفة في غرب أفريقيا، وهي دول لا تختلف فيها الجيوش كثيراً عن ميليشيات الفوضى والعنف!

فهل صحيحٌ أنّ الولايات المتحدة تعاني أزمةً تشبه أزمات الإمبراطوريات في نهاياتها؟ هذه الظواهر المثيرة للخوف ما اقتصرت على أميركا أو أنها لم تبدأ فيها، بل بدأت في أوروبا بمناطقها الثلاث الرئيسية. فاليوم تسود في القارة العجوز صاحبة تراث التنوير حكومات يمينية تتنكر لتلك القيم، ولمفهوم وممارسات «الرأسمالية الاجتماعية»، ولمفهوم: المجتمع المفتوح، والعداء للمهاجرين.

وهكذا، فإنّ ظواهر تقدُّم اليمين في أميركا وكندا وأستراليا، وإن اختلفت درجاتها، تشير إلى ظواهر عامة تسود العالم الغربي، وتؤْذِن بمتغيرات الأزمنة انطلاقاً من الغرب الذي صنع حاضر العالم في الحقبتين: حقبة الحرب الباردة، وحقبة زمن الهيمنة القصير العمر. كل المثقفين والإعلاميين الأميركيين ارتاعوا من ظاهرة ترمب وانتصاره ولأنّ القرن العشرين، والعقود الأولى للقرن الحادي والعشرين الذي صنع خلاله وخلالها الأميركيون وحلفاؤهم نظام العالم، ونظام العيش فيه؛ فإنّ المنتظر وقد داخَلَ الاختلالُ نظام العالم، أن تتطور أمور عدة، أهمها تعدد مراكز القوة، وازدياد الصراعات على الموارد وعلى المجالات الاستراتيجية، وبالتالي ازدياد النزاعات.

«المدينة على الجبل» التي فقدت السيطرة لا السطوة، وفقدت الوهج فإنها ما عادت تستطيع التفرد ولا الانعزال، ولا فرض نفسها على الآخرين بالقوة القاهرة. لكنّ ترمب يبقى رمزاً من رموز المرحلة الجديدة، رغم ذعر المثقفين والإعلاميين. وكما يقول ابن خلدون في نهايات فصول مقدمته إنّ لله في خلقه شؤوناً!

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

ماذا جرى في «المدينة على الجبل» ماذا جرى في «المدينة على الجبل»



GMT 06:02 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الثكنة الأخيرة

GMT 05:58 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

سوريا... هذه الحقائق

GMT 05:54 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

في أنّنا بحاجة إلى أساطير مؤسِّسة جديدة لبلدان المشرق

GMT 05:50 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

مخبول ألمانيا وتحذيرات السعودية

GMT 05:47 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

التاريخ والفكر: سوريا بين تزويرين

GMT 05:43 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

إنجاز سوريا... بين الضروري والكافي

GMT 05:39 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

ليبيا: لعبة تدوير الأوهام

GMT 05:35 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

عالية ممدوح

GMT 12:35 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
  مصر اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 12:26 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف
  مصر اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف

GMT 17:17 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب
  مصر اليوم - الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب

GMT 00:04 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

«صاحبك راجل» يعيد درة للسينما بعد غياب 13 عامًا
  مصر اليوم - «صاحبك راجل» يعيد درة للسينما بعد غياب 13 عامًا

GMT 10:46 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

مواقيت الصلاة في مصر اليوم الأربعاء 18 ديسمبر / كانون الأول 2024

GMT 09:03 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

مدينة العلا السعودية كنزاً أثرياً وطبيعياً يجذب السائحين

GMT 10:20 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

إطلالات لا تُنسى لنادين نجيم في عام 2024

GMT 19:37 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

مروة صبري توجّه رسالة لشيرين عبد الوهاب بعد ابتزاز ابنتها

GMT 23:53 2013 الخميس ,28 تشرين الثاني / نوفمبر

إكسسوارات تضفي أناقة وتميُّزًا على مظهرك

GMT 11:54 2024 الإثنين ,06 أيار / مايو

أحذية لا غنى عنها في موسم هذا الصيف

GMT 04:51 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

السجن 50 عاما لامرأة أجبرت 3 أطفال على العيش مع جثة في أميركا

GMT 13:32 2016 الجمعة ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

أرجو الإطمئنان بأن الآتي أفضل

GMT 13:13 2024 الأربعاء ,30 تشرين الأول / أكتوبر

اتفاقية بين مصر وموانئ دبي العالمية لتطوير منطقة حرة عامة

GMT 19:17 2021 الأربعاء ,16 حزيران / يونيو

التشكيل الرسمي لمباراة إنبي والبنك الأهلي
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon