بقلم: رضوان السيد
عندنا نموذج حاضر لتضاؤل أهمية الوساطة والتفاوض ودورهما في وقف النزاعات والحروب، وهذا النموذج هو حرب غزة. لكن لو أمعنّا النظر في ما حولنا لوجدنا عشرات الأمثلة لفشل الوساطات والمفاوضات واستمرار الحروب، ومنها وأشهرها الحرب الروسية - الأوكرانية، وأقدمها الحرب الصومالية، ومنها الحرب السودانية الدائرة، وقبلها الحرب الليبية، والحرب السورية، وحرب الكونغو، والنزاعات المتفاقمة في دول الساحل الأفريقي، وحتى نزاع كالنزاع على السلطة في فنزويلا الذي لم تنفع فيه الوساطات والاستقطابات ويوشك أن يتحول إلى نزاعٍ مسلَّح!
يقال إنّ حروب التحرير في الخمسينات والستينات كانت حروباً عقائدية ولذلك كانت شرسة وتكثر فيها الضحايا (انظر ثورة المليون شهيد). لكنها ليست حجة لما نحن بصدده. فقد انتهى الأمر دائماً إلى تفاوض ورأى المناضلون من أجل الاستقلال أنهم انتصروا، وغادر جنود الاحتلال من الهند ومن كينيا ومن الجزائر... إلخ. لكنّ الوجود المصلحي بقي واستعلى ولا يزال كذلك حتى اليوم.
وعلى أي حال فإنّ الميليشيات التي سيطرت هذه الأيام في عديد من الدول ليست عقائدية بالطبع ويمكن إقناعها بالتفاوض لكن ليس من السهل إقناعها بحلِّ نفسها، وفي حين أُرغم العراق وليبيا على الدفع للميليشيات، استعاضت ميليشيات أخرى عن ذلك بالسيطرة على المرافق والموانئ والمطارات وآبار النفط، والجمارك لكي تتمكن من تمويل جهازها القتالي والإداري، بالإضافة إلى القيام بممارسات غير مشروعة من أجل الكسب المادي. وهكذا في كثير من الحالات يبدو أن الجمهور يسلّم بوجود الميليشيا مرغماً لكنه لا يقبل بأن يدفع لها مهما كلف الأمر. لكن في حالاتٍ عديدة تلجأ السلطات لشراء السلام الداخلي بالرشى.
ولنعُدْ إلى تكاثر الحروب وفيها الميليشياوي وغير الميليشياوي. إذا طال عمر أزمةٍ أو حرب وسواء أكانت داخلية أو بين دولتين، يتدخل النظام الدولي ويصدر قراراً بوقف الحرب. وقد ينجح في ذلك إن لم تكن هناك تدخلات من أكثر من جهة. إنما الجديد هو الانقسام في النظام الدولي بين الدول الكبرى فيه. والجديد إقدام الدول الكبرى على القتال ضد دولٍ صغرى بعد أن لم يعد ذلك معهوداً منذ الحرب الفيتنامية.
لماذا صارت الوساطة أصعب سواء أكانت لمنع الحرب أو لوقفها؟
هناك أولاً الميل المتزايد لاستخدام القوة منذ غزو الولايات المتحدة العراق. وإذا كانت الدولة العظمى هي المقاتلة وهدفها النصر الأعظم فلماذا تقبل الوساطة وتقبل إنقاذ «العدو» من الاستسلام؟ أما إذا كانت الحرب داخلية فإنّ السلطة المركزية لا تقبل الشراكة وتستعين بالحلفاء لضرب الخصوم إلا إذا ضاق عليها الوقت فسقطت، كما حصل في تونس والآن في بنغلاديش.
لكن لدينا حربان غير عاديتين على أوكرانيا من جانب قوةٍ عظمى هي روسيا الاتحادية -وعلى غزة من جانب إسرائيل، القوة المتفوقة، وتدعمها القوة العظمى الولايات المتحدة. في الحالة الأولى وقد مضت على الحرب سنوات، ما صارت هناك وساطات حقيقية. وقد أمكن للقوة الصغيرة الصمود بفضل المساعدات الهائلة من الطرف الغربي. ومن البداية التفت الجميع إلى الصين لكنها انحازت إلى روسيا، وتوسطت تركيا والدول العربية في مسائل جزئية. أما في حرب غزة فتسود الولايات المتحدة في الجانبين: جانب نصرة إسرائيل، وجانب الوساطة لوقف الحرب. وتتميز إسرائيل بالضربات الفتاكة، لكنّ أحداً لم يستسلم أو يتوقف، رغم الإصرار الأميركي على ذلك!
خلاصة الأمر أنه لم تعد للنظام الدولي ومجلس الأمن هيبة، وقد كان في الحقيقة المكان الأول للوساطة والتفاوض. والأمر الآخر، وبسبب انعدام الوسيط، يميل الجميع إلى استخدام القوة. والأمر الثالث ظهور الهشاشة في البنى الأفريقية والعربية الشرق أوسطية؛ بحيث يميل الجميع إلى الاستغلال والتدخل وتوسيع النزاع.
ولدينا عاملٌ رابعٌ أو خامسٌ إذا صحَّ التعبير، وهو العامل الإسلامي. وقد اصطُلح على تسمية الجزء المقاتل منه بالإرهابي. لأنه بالفعل لا يملك مشروعاً لسلطة بديلة من أي نوعٍ، بل هو العنف والفتك، ولا شيء غير ذلك. وهناك إجماع ظاهر على مكافحة الظاهرة المخيفة. لكنّ هناك أطرافاً إقليمية ودولية تميل لاستخدامها أو اتقاء شرها بالحياد على الأقلّ. ولا نعرف أي نوعٍ من الوساطة معها باستثناء بعض الأجهزة الأمنية.
لمعالجة ظواهر الحروب المتفاقمة في الدواخل وبين الدول، لا يزال كثيرون يلجأون لتشكيل كتل وتحالفات جديدة للحماية وللتنمية الاقتصادية. في حين يريد آخرون إصلاح النظام الدولي، وبعض الإصلاحيين من الدول الكبرى مثل الصين والهند. أما أدوار الوساطة والتفاوض فما عادت تميل إليها غير الصين في حالات، وبعض الدول العربية.