بقلم: رضوان السيد
ما بقي أحدٌ من المراقبين والمعلِّقين العرب إلاّ وأمّل أن تكون إيران صادقة في وعود عدم التدخل وعلاقات المصالحة وحُسن الجوار. ويرجع ذلك إلى الأضرار الهائلة التي تعمدت الجمهورية الإسلامية الإيرانية إنزالها بمجتمعات سائر دول المشرق العربي، ومعظم دول الخليج. وقبل ظهور المشكلة التي صارت حرباً داخلية باليمن، كان هناك ذلك الانقسام الطائفي الذي استند إلى وعي مستجد وانشقاقي نشرته دعاوى تصدير الثورة، ودعوات الثأر لآل البيت، ومحاولات التغيير الديموغرافي والمذهبي، بل التاريخي في سائر الأنحاء العربية. نحن لا نعرف الكثير عن التأثير الإيراني في الدول الإسلامية التي تمتلك أقليات شيعية، لكننا عرفنا، وتابعنا في عدة دولٍ عربية، وكان بعضنا يركّز على المعنى السياسي، في حين كان البعض الآخر الذي يمتلك حساسية دينية يتابع العمليات الواعية، التي سرعان ما صارت إليها نتائج سياسية، إمّا صنع دويلات، وإما الاستيلاء على السلطة. أما في حالة العجز عن الاستثمار المذهبي والسياسي فالمضيّ إلى الارتكابات الأمنية. وبهذين الأسلوبين المذهبي والسياسي - الأمني انتشرت بقع الاضطراب في غير مكانٍ ولا تزال. ولا يظنّن أحدٌ أنّ المملكة بالذات لم تحاول التوسط مباشرةً أو من طريق الأصدقاء مع إيران من أجل تغيير سياسات التقسيم والاستهواء. والكل يعرف كم تدخلت المملكة لتلافي الانقسام الفلسطيني بسبب الاستهواء الإيراني - السوري، بين 2007 و2010. وكذلك كان عليه الأمر في لبنان بين 2005 و2010، وهذا إلى جانب المبادرات المستمرة في العراق واليمن. وإلى جانب هذا وذاك هناك المحاولات الكثيرة مع إيران مباشرةً أيام رفسنجاني وخاتمي وحتى أيام محمود أحمدي نجاد! كان الخبراء الاستراتيجيون الإيرانيون يُعيّروننا بأنّ المجتمعات والدول في المشرق العربي تتّسم بالهشاشة وهي سهلة الاختراق، وكنا نقول لهم: إنّ التنوع المذهبي والإثني موجود في العالم العربي وفي إيران وتركيا. والفرق في الاستقرار أو الاضطراب هو في العمل عليه من الداخل والخارج للاستثارة أو الاستغلال. وما عمل عربي أو غير عربي على استغلال الأقليات والخلافات السياسية في إيران؛ بعكس ما حصل مع العالم العربي؛ فلدينا عاملان: العامل الإيراني، والعامل الأميركي. وقد تحدثنا عن العامل الإيراني ودوافعه ونتائجه، أما الأميركيون فما قصّروا أبداً بعد عام 2001 سواء في العمل على تغيير الأنظمة، أو في «التعاون الاستراتيجي» أو الأصحّ: «الإغفال الاستراتيجي» لإفادة إيران من الغزوات الأميركية والتدخلات الأميركية في كل مكان. ويعلم الكثيرون أنه في العراق بالذات كان هناك تعاون استراتيجي مع إيران مباشرةً أو بالواسطة قبل عام 2003 (عام الغزو)، ثم في مرحلة الانسحاب الأولى (2008 - 2010)، ثم في العودة الثانية (2014 - 2018). نحن العرب الأشدّ لهفة للاستقرار والسلام، لسببين: المعاناة الهائلة طوال عقدين ومنها تصدع الدول، وخراب المجتمعات، وهجرات الملايين، والخسائر الفادحة في الأرواح، والبؤس المنتشر؛ ولذلك صار الاستقرار أملاً ولهفة ومصيراً لا يمكن التخطّي إلى الحياة الإنسانية من دونه. أما السبب الثاني فهو الجهد الجديد الكبير النهضوي والتحرري والتنموي والدولتي والإنساني الذي تقوده المملكة العربية السعودية، وتمتد آماله وطموحاته عبر العالمين العربي والإسلامي. هو جديدٌ جديدٌ لا بد من التمكن من استقباله. وصحيح أنّ هناك استقراراً في منطقة الخليج، وجهداً كبيراً لتجاوز كل الاختلافات، لكنّ الاستدامة المعتبرة تحتاج إلى الاستقرار الواسع والاحتواء الواسع والأفق الواسع. كانت المدينة المباركة على الجبل تسود في الولايات المتحدة آيديولوجياً، وهي عبارة في الإنجيل عن «مدينة الله»، وكان هناك صراع على الدوام بين سياسات الانفتاح، وسياسات الانفراد والاعتزال، ورمز ذلك مبدأ مونرو المشهور. وقد حاجج أنصار الانفتاح مونرو وأنصاره بأنّ المدينة على الجبل إن لم تحاول مدَّ دعوتها فإنّ جيوش الظلام ستهاجمها بالداخل للنيل من تفوقها الأخلاقي والحضاري. نعم، نحن محتاجون إلى الاستقرار والسلام في المنطقة من أجل اكتمال القدرة على صنع الجديد والمتقدم. وقد نال من هذه الإرادة كثيراً في العقدين الأخيرين الاضطرابُ الذي نشرته وتنشره ثلاث جهات: إسرائيل والأميركان والإيرانيون. لقد هوجمت «المدينة على الجبل» بالفعل. واستطاعت المملكة وشقيقاتٌ لها الصمود في وجه الهجمات، ثم الانطلاق لصنع التنمية والتقدم، والرقعة المنيرة إلى اتساع بجهودٍ جبارة تتلافى العقبات، وتساعد المتعثرين كي ينضموا إليها، وتستقلّ بقرارها الاستراتيجي، وكما يقول الإخوة المصريون: تهبّ على وجه الدنيا! إنّ المفروض أن تكون لدى إيران اللهفة نفسها للاستقرار والازدهار فيما وراء أوهام مكابرة الاستضعاف، ومواجهة الاستكبار، ونشر الثورة التي ارتدت إلى الداخل؛ فالاقتصاد الإيراني في أسوأ حالاته، ومستوى المعيشة في أدنى الدرجات. ثم إنّ المفروض والبدهيّ أن الشعب الإيراني، قبل سائر شعوب العالم، يريد الاستقرار والاستمتاع بثروات بلاده التي لا يبدو لها أثر بارز في حياته حتى الآن. ليس هناك سبب حاكم لإيران لمعاداة المملكة أو العرب.
وبسبب موقع المملكة العربية السعودية في العالمين العربي والإسلامي وفي النظام الدولي، فإننا نحن العرب عددنا عودة العلاقات السعودية مع إيران مؤشراً إلى أن الجمهورية الإسلامية قررت أخيراً، بسبب الضيق أو بسبب تغير الاستراتيجية، أن تتواصل وتتصالح مع العرب والمسلمين الآخرين، الذين أرادوا دائماً علاقات أخوة وودٍّ وندِّية، ولم يجدوا غير التربص والاستهداف. المشرق كله وأفريقيا بحاجة إلى السلام الحقيقي وسط الاضطراب الذي ينتشر ووصل إلى أوروبا. ولو تأملنا هذا الاضطراب قليلاً لوجدنا للسياسات الدولية دوراً كبيراً فيه، والذي تلعب أكثره الولايات المتحدة. والآن يطلُّ العملاق الصيني، ويبشّر بسياسات تعاوُنٍ وتقدمٍ وحلولٍ للنزاعات، ونشر الاستقرار والرخاء باستراتيجية الحزام والطريق البادئة عام 2013. ولكلٍّ من السعودية وإيران علاقات وثيقة بالصين، ولذلك أمكن للصيني التأثير والضمان بسبب الموقع الكبير من جهة، ولأنه يريد أن يطرح نموذجاً للعلاقات الدولية والتعاون الدولي، مختلفاً عن الولايات المتحدة ونموذجيها في الحرب الباردة وفي حقبة الهيمنة. وليس بعيداً بعد هذا النجاح في المشرق، أن ينجح الصيني في مبادرته المعلنة للتوسط في النزاع الروسي - الأوكراني؛ فهو واقعيٌّ وبراغماتيٌّ، وأمامه الملعب العالمي الذي يريد نشر الثقة بقدراته فيه. الاتفاق السعودي - الإيراني يبشّر بتغييرٍ كبيرٍ في السياسات بمنطقة الشرق الأوسط، والمرجوّ بالإرادة الطيبة وبالضمانة الصينية أن يكون الاتفاق تمكيناً فعلياً للاستقرار، واستقبال الجديد في منطقتنا وفي العالم.