توقيت القاهرة المحلي 12:51:39 آخر تحديث
  مصر اليوم -

زمن الدولة الوطنية لا زمن الهويات!

  مصر اليوم -

زمن الدولة الوطنية لا زمن الهويات

بقلم - رضوان السيد

 بدأ نقد «الخطاب الاستعماري» في الستينيات والسبعينيات حين لم تكن الهويات المتعملقة قد ظهرت بعد. كان الزمن وقتَها زمن الاستقلالات وحركات التحرير، فالهمُّ كان جمع الناس في دولةٍ قوميةٍ أو شبه قومية للخروج من الاستعمار وسيطرته والخطابات التي كانت تنتشر في المناطق المستعمَرة. لكنْ حتى في ذلك الزمان، كانت هناك الأطروحات الموروثة من القرن التاسع عشر والتي تذهب إلى أنّ «المجتمعات الشرقية» مجتمعاتٌ انقسامية، بينما المجتمعات الأوروبية مجتمعاتٌ قوميةٌ أو اندماجية.
لذا فقد انصرف المفكرون النقديون من اليساريين وخصوم «العلوم الاستعمارية» من السوسيولوجيين والأنثروبولوجيين إلى نقد الأطروحة الانقسامية في الاجتماع والأنثروبولوجيا، ومن ذلك نقد إدوارد سعيد لخطاب الاستشراق، ونقد طلال أسد لأنثروبولوجيا الإسلام التي حمل لواءَها كلٌّ من إرنست غلنر وكليفورد غيرتز. وقد تشعبت القراءات النقدية لخطابات العلوم الاستعمارية حتى صارت تُعرف بدراسات التابع Subaltern والتي يسير فيها مفكرون من الهند وأميركا اللاتينية وأفريقيا.  
  وأذكر كم أثارت سخطنا في التسعينيات دراسة حنا بطاطو الواسعة عن العراق، والتي ذهب فيها إلى هشاشة المجتمع بل المجتمعات العراقية. فقد كان السيوسيولوجي العراقي المعروف علي الوردي قد حدّد الانقسام في العراق بأنه بين البدو والحضر، وأنّ الدولة الحديثة الناجحة سوف تُزيله. بينما كان المفكرون القوميون العرب يذهبون إلى أنّ العرب هم من أكثر شعوب العالم توحداً حول هويةٍ جامعة. وفي العقود الأخيرة، تصاعدت مشكلاتُ الهوية في كل أنحاء العالم. لكنها ظلت حتى الآن في معظمها سياسية في أوروبا وأميركا، بينما اتخذت طابعاً أعمق في المجتمعات التي ظلّت تُسمَّى شرقية.
وهناك ضغوطٌ لا تُنكر بشأن الهوية القَبَلية والأخرى الدينية في بلدان أفريقيا وآسيا، لكنها لا تظهر ولا تترتب عليها آثار تقسيمية إلاّ في الدول الضعيفة، أمّا في الدول القوية فإنّ الهويات التمييزية والتمايزية تظلُّ ضعيفة، أو تجد لها حلاًّ في صيغ مثل الدولة الاتحادية. وهناك حلول تاريخية في دولٍ مثل سويسرا وبلجيكا قديماً، وفي كندا حديثاً. وهناك تعددٌ في الهويات الإثنية في بلدٍ شاسعٍ مثل إندونيسيا، وإلى حدما في تركيا أيضاً، غير أنّ الدولة فيهما قوية فلا تضيرها كثيراً التمايزات الإثنية أو الدينية.  
  لكن لنلتفت إلى البلدان التي تعملقت فيها الهويات التمايزية أخيراً مثل السودان والصومال وبعض بلدان آسيا الوسطى والقوقاز وحتى لبنان. ففي عددٍ من هذه البلدان، أمكن للهويات الانقسامية أن تستقل أو تصير لها كيانات كونفدرالية. لا تستطيع أي دولةٍ أن تقوم على أوحدية الهوية. ونموذج باكستان ظاهرٌ للعيان.
فقد انقسموا عن الهند باسم الهوية الإسلامية، لكنهم ما لبثوا أن صاروا دولتين: باكستان وبنغلادش، لأنّ الدين الواحد ما استطاع عصمتهم من تضارب الهوية الإثنية بين البنغال والبنجاب والسند. وقد تنشأ دُوَلٌ من أجل الهوية مثل  ولبنان، لكن ذلك لا يحدث إلا في دولة فاشلة. وبسبب التدخلات من الدول المجاورة، أو من الدول الكبرى تنقسم الهوية على نفسها. وعندما تكون الدولة ضعيفة، أي لا تكون دولة مواطنة، فإنّ الانقسامات لا تنتهي. ولذا لا خيار بين الهوية أو دويلات الهويات وبين الدولة القوية القائمة على تعدد الإثنيات.
انقسم جنوب السودان عن شماله، والآن وفيما وراء الصراع الدائر بين الجيش والدعم السريع، فإنّ إقليماً مثل دارفور، وتحت وطأة الظروف، يمكن أن يتحول إلى دولة بسبب الصراع بين ذوي الأصول الأفريقية والعربية.     لن تجد المجتمعات متعددة الهويات حلاًّ في الانقسام، لأنها ستزداد انقساماً مهما صغُرت، ويبقى الحلّ في دولة المواطنة التي تتعايش هوياتها في ظلّ الدولة الاتحادية القوية، مهما كانت الهويات متعددة.
*أستاذ الدراسات الإسلامية -جامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

زمن الدولة الوطنية لا زمن الهويات زمن الدولة الوطنية لا زمن الهويات



GMT 14:59 2024 الثلاثاء ,03 أيلول / سبتمبر

مشاهد مُستَفِزَّة.. “راكبينكم راكبينكم..”!

GMT 06:36 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

… لأي قائمة يسارية ديمقراطية نصوت ؟!

GMT 06:23 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

ماذا قال يمامة؟

GMT 06:16 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

مشكلة إصلاح التعليم

GMT 07:57 2024 الأحد ,21 تموز / يوليو

رصاصة النجاة

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 09:22 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

دراسة تحذر من أن الأسبرين قد يزيد خطر الإصابة بالخرف
  مصر اليوم - دراسة تحذر من أن الأسبرين قد يزيد خطر الإصابة بالخرف

GMT 11:07 2020 الجمعة ,24 كانون الثاني / يناير

سعر الذهب في مصر اليوم الجمعة 24 كانون الثاني يناير 2020

GMT 00:28 2019 الجمعة ,06 كانون الأول / ديسمبر

خالد النبوي يكشف كواليس تدريباته على معارك «ممالك النار»

GMT 14:08 2019 الإثنين ,02 كانون الأول / ديسمبر

أبرز الأحداث اليوميّة لمواليد برج"الحوت" في كانون الأول 2019

GMT 00:09 2019 الأحد ,01 كانون الأول / ديسمبر

ارتدي جاكيت الفرو على طريقة النجمات

GMT 20:08 2019 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الحكومة تصدر 9 قرارات تهم المصريين "إجازات وتعويضات"

GMT 08:01 2019 الأربعاء ,09 تشرين الأول / أكتوبر

عرض فيلم "الفلوس" لتامر حسني أول تشرين الثاني

GMT 08:44 2019 الإثنين ,16 أيلول / سبتمبر

إنجي علي تفاجئ فنانا شهيرا بـ قُبلة أمام زوجته
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon