توقيت القاهرة المحلي 05:04:16 آخر تحديث
  مصر اليوم -

زمن الدولة الوطنية لا زمن الهويات!

  مصر اليوم -

زمن الدولة الوطنية لا زمن الهويات

بقلم - رضوان السيد

 بدأ نقد «الخطاب الاستعماري» في الستينيات والسبعينيات حين لم تكن الهويات المتعملقة قد ظهرت بعد. كان الزمن وقتَها زمن الاستقلالات وحركات التحرير، فالهمُّ كان جمع الناس في دولةٍ قوميةٍ أو شبه قومية للخروج من الاستعمار وسيطرته والخطابات التي كانت تنتشر في المناطق المستعمَرة. لكنْ حتى في ذلك الزمان، كانت هناك الأطروحات الموروثة من القرن التاسع عشر والتي تذهب إلى أنّ «المجتمعات الشرقية» مجتمعاتٌ انقسامية، بينما المجتمعات الأوروبية مجتمعاتٌ قوميةٌ أو اندماجية.
لذا فقد انصرف المفكرون النقديون من اليساريين وخصوم «العلوم الاستعمارية» من السوسيولوجيين والأنثروبولوجيين إلى نقد الأطروحة الانقسامية في الاجتماع والأنثروبولوجيا، ومن ذلك نقد إدوارد سعيد لخطاب الاستشراق، ونقد طلال أسد لأنثروبولوجيا الإسلام التي حمل لواءَها كلٌّ من إرنست غلنر وكليفورد غيرتز. وقد تشعبت القراءات النقدية لخطابات العلوم الاستعمارية حتى صارت تُعرف بدراسات التابع Subaltern والتي يسير فيها مفكرون من الهند وأميركا اللاتينية وأفريقيا.  
  وأذكر كم أثارت سخطنا في التسعينيات دراسة حنا بطاطو الواسعة عن العراق، والتي ذهب فيها إلى هشاشة المجتمع بل المجتمعات العراقية. فقد كان السيوسيولوجي العراقي المعروف علي الوردي قد حدّد الانقسام في العراق بأنه بين البدو والحضر، وأنّ الدولة الحديثة الناجحة سوف تُزيله. بينما كان المفكرون القوميون العرب يذهبون إلى أنّ العرب هم من أكثر شعوب العالم توحداً حول هويةٍ جامعة. وفي العقود الأخيرة، تصاعدت مشكلاتُ الهوية في كل أنحاء العالم. لكنها ظلت حتى الآن في معظمها سياسية في أوروبا وأميركا، بينما اتخذت طابعاً أعمق في المجتمعات التي ظلّت تُسمَّى شرقية.
وهناك ضغوطٌ لا تُنكر بشأن الهوية القَبَلية والأخرى الدينية في بلدان أفريقيا وآسيا، لكنها لا تظهر ولا تترتب عليها آثار تقسيمية إلاّ في الدول الضعيفة، أمّا في الدول القوية فإنّ الهويات التمييزية والتمايزية تظلُّ ضعيفة، أو تجد لها حلاًّ في صيغ مثل الدولة الاتحادية. وهناك حلول تاريخية في دولٍ مثل سويسرا وبلجيكا قديماً، وفي كندا حديثاً. وهناك تعددٌ في الهويات الإثنية في بلدٍ شاسعٍ مثل إندونيسيا، وإلى حدما في تركيا أيضاً، غير أنّ الدولة فيهما قوية فلا تضيرها كثيراً التمايزات الإثنية أو الدينية.  
  لكن لنلتفت إلى البلدان التي تعملقت فيها الهويات التمايزية أخيراً مثل السودان والصومال وبعض بلدان آسيا الوسطى والقوقاز وحتى لبنان. ففي عددٍ من هذه البلدان، أمكن للهويات الانقسامية أن تستقل أو تصير لها كيانات كونفدرالية. لا تستطيع أي دولةٍ أن تقوم على أوحدية الهوية. ونموذج باكستان ظاهرٌ للعيان.
فقد انقسموا عن الهند باسم الهوية الإسلامية، لكنهم ما لبثوا أن صاروا دولتين: باكستان وبنغلادش، لأنّ الدين الواحد ما استطاع عصمتهم من تضارب الهوية الإثنية بين البنغال والبنجاب والسند. وقد تنشأ دُوَلٌ من أجل الهوية مثل  ولبنان، لكن ذلك لا يحدث إلا في دولة فاشلة. وبسبب التدخلات من الدول المجاورة، أو من الدول الكبرى تنقسم الهوية على نفسها. وعندما تكون الدولة ضعيفة، أي لا تكون دولة مواطنة، فإنّ الانقسامات لا تنتهي. ولذا لا خيار بين الهوية أو دويلات الهويات وبين الدولة القوية القائمة على تعدد الإثنيات.
انقسم جنوب السودان عن شماله، والآن وفيما وراء الصراع الدائر بين الجيش والدعم السريع، فإنّ إقليماً مثل دارفور، وتحت وطأة الظروف، يمكن أن يتحول إلى دولة بسبب الصراع بين ذوي الأصول الأفريقية والعربية.     لن تجد المجتمعات متعددة الهويات حلاًّ في الانقسام، لأنها ستزداد انقساماً مهما صغُرت، ويبقى الحلّ في دولة المواطنة التي تتعايش هوياتها في ظلّ الدولة الاتحادية القوية، مهما كانت الهويات متعددة.
*أستاذ الدراسات الإسلامية -جامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

زمن الدولة الوطنية لا زمن الهويات زمن الدولة الوطنية لا زمن الهويات



GMT 20:18 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

مؤتمر الصحفيين السادس.. خطوة للأمام

GMT 14:59 2024 الثلاثاء ,03 أيلول / سبتمبر

مشاهد مُستَفِزَّة.. “راكبينكم راكبينكم..”!

GMT 06:36 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

… لأي قائمة يسارية ديمقراطية نصوت ؟!

GMT 06:23 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

ماذا قال يمامة؟

GMT 06:16 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

مشكلة إصلاح التعليم

GMT 12:35 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
  مصر اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 12:26 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف
  مصر اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف

GMT 17:17 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب
  مصر اليوم - الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب

GMT 22:45 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

زينة تستعد للمشاركة في الدراما التركية
  مصر اليوم - زينة تستعد للمشاركة في الدراما التركية

GMT 07:12 2024 الجمعة ,13 كانون الأول / ديسمبر

فينيسيوس الأفضل في العالم لأول مرة وهذا ترتيب ميسي وصلاح

GMT 15:43 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 22:56 2019 الإثنين ,09 كانون الأول / ديسمبر

إيهاب جلال يطمئن على فريد شوقي بعد تحسن حالته

GMT 16:26 2019 الأحد ,10 آذار/ مارس

سيدة كل العصور

GMT 06:37 2018 الثلاثاء ,28 آب / أغسطس

تعرف على سعرالمانجو في سوق العبور الثلاثاء

GMT 01:04 2018 الثلاثاء ,01 أيار / مايو

وداع أندريس إنييستا يخيم على احتفالات برشلونة
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon