بقلم - رضوان السيد
سمعت متأخراً مقابلة المديفر في برنامجه مع خالد العضّاض وهو يروي وقائع تجربته مع السرورية، أحد تيارات الصحويات. وما كنت أعرف الكثير من التفاصيل المفزعة والتي لا تعليل لها إلاّ ظهور وجوهٍ من الوعي في أوساط المتعلمين المتدينين شكَّلت انشقاقاتٍ في التفكير والتصرف أضرّت بالدين والمجتمعات والدول الوطنية.
لقد انقضت تلك التجارب المؤسِّسة أو كادت بعد سقوط الاستيلاء الأصولي خلال ما صار يُعرف بالربيع العربي. بيد أنّ الدراسات خارج المجالين العربي والإسلامي انصبّت في السنوات الأخيرة على التأثيرات المتبادلة بين الصحويات والدول الديمقراطية والعلمانية. وهي ظواهر ذات شقين: يتعلق الأول باستعانة السياسيين في دول مثل أميركا والهند بالتيارات الدينية في الانتخابات، والشق الثاني سياسات الكثير من الدول تجاه الصحويات والإحيائيات في بلداننا بحجة الحريات الدينية والسياسية وأحياناً من دون حجة غير الضغط على إدارات الدول لبلوغ أهداف معينة في سياسات تصريف الموارد والسياسات الخارجية.
في هذا المجال كنت أعتمد في العروض الاستراتيجية وسياسات الدين على كتاب سكوت هيبارد «الدول العلمانية وسياسات الدين» 2007. وهو يدرس التأثيرات المتبادلة بين الأحزاب السياسية والصحويات الإنجيلية والهندوسية في الولايات المتحدة والهند. وهو يذهب إلى أنه ما كانت للسياسات الحزبية أدوارٌ في صعود الأصوليات في القرن الماضي وأمام تصاعد التنافس الحزبي مضت الأحزاب باتجاه كسب أصوات المتدينين الانشقاقيين أو الجدد. وقد كسب كارتر أصوات الكنائس البروتستانتية الكبرى، أما ريغان ومن بعده من الجمهوريين فقد كسبوا أصوات أولئك الجدد. وهو الأمر الذي حصل مثله في الهند في التنافس بين حزب المؤتمر وحزب «بهاراتيا جاناتا» -مع أنّ قيادة حزب المؤتمر صارت منذ الثمانينات تحسب حساباً للصعود الديني- القومي في أوساط الأكثرية الهندوسية الدينية.
وبين يدينا الآن دراسات كثيرة أهمها لبوتنام ولوكا أوزانو وأنزو باتشي. وهي تعتمد الإحصاء لجهتين: جهة زيادة عدد المتدينين، وجهة تسييس المتدينين وتحزُّبهم لطرفٍ أو أطراف معينة. أما بالنسبة لتدخل السياسات في نصرة هذا التيار أو ذاك في بلداننا فيستخدم الباحثون الاستطلاعات التي تعتمد تصريحات الدبلوماسيين وتحركاتهم ونشاطات جماعات المجتمع المدني، والاستشكال في مسائل الحريات الدينية والمدنية.
لماذا الاهتمام الآن بهذه الظواهر؟ بسبب استمرار ظهور الديني وتأثيره في السياسي، وبسبب اندلاع الشعبويات الواقعة بين الديني والقومي، وبسبب السيولة القابلة لكل تأثير في بلدان العالمين العربي والإسلامي.
لوكا أوزانو في كتابه «أقنعة الدين السياسية... الدين والأحزاب السياسية في الديمقراطيات المعاصرة» يدرس ظواهر التبادل في التأثير في الهند وتركيا وإسرائيل والولايات المتحدة، ومنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وهو يرى بعد طول تأمل أنّ تحولاً حصل بالفعل في الهند أيام رئيس الوزراء الحالي حيث استولى «الديني- القومي» أو «القومي - الديني» على السياسات الداخلية، وصارت الأحزاب الكبرى والمحلية واقعة تحت تأثيره. أما في تركيا فإنّ إردوغان صعد على ظهر المتدينين الجدد وأشباه الإخوان وفتح الله غولن، لكنه صار الآن يتجاوزهم جميعاً بعد أن متّن علاقاته بفقراء الأناضول والفئات الوسطى في المدن، وبدا مصارعاً في الإقليم والمجال الدولي؛ وإن كانت تحليلات أوزانو تقول إنّ شعبياته أكبر من شعبيات حزبه! فإذا بحثنا النهوض الديني في تركيا ندرك أنه صار عادياً بعد أن كان ارتداء غطاء الرأس ثورة هائلة. وإذا كنا نعرف أن إردوغان تلاعب بالإخوان ومعهم ضد مصر، أدركنا أنّ الدولة والنظام السياسي يملك أوراقاً يلعبها بالدين وتجاه الخارج أكثر مما هو تجاه الداخل. في الداخل وبعد أن انتهى زمان الرمزيات، صار لا بد من الاستنصار بسياسات المصالح، والأخرى الوطنية والقومية، وهو في ذلك مثل الأحزاب الأخرى العلمانية، التي لا تتظاهر بالنزوع الديني، فتقع في الإحراج عندما تضطر للتخلي عنه كما وقع لإردوغان مع إسرائيل ومع النظام السوري.
ويتابع لوزانو الأمر في السياسات الإسرائيلية فيجد أنّ الصراع الحزبي الهائل دفع الأقليات الدينية المتطرفة إلى الواجهة بحيث بدت أكثرية توشك أنْ تغيِّر وجه الدولة القومية والعلمانية أكثر من الهند بكثير. ويناقش كلٌّ من لوزانو وبوتنام مشكلات المخرج فيعدّان أنها موجودة بتغيير قانون الانتخاب، وحرمان أعضاء الأحزاب الدينية من الامتيازات؛ إنما مَن السياسي الذين يجرؤ على ذلك ولو كان من العلمانيين؟! ثم إنّ المتدينين الجدد هؤلاء يقتربون بعض الشيء من القوميين بخلاف السابق. وكلا الفريقين يجد عدوه في العرب وراء الخط الأخضر وأمامه، وعددهم يصل إلى عدد اليهود وأكثر إذا عددناهما معاً وهو التوجه الخطر الذي يسير نحوه الإسرائيليون المتطرفون.
أما في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا فإنّ أحزاب الإسلام السياسي إلى تراجع، وآخرها ما حصل لحركة «النهضة» في تونس. لقد حظيت تلك الأحزاب؛ من ليبيا إلى المغرب وتونس والجزائر بفرص واسعة، لكنها فشلت في الإفادة منها. ولذلك فهي تتجه إلى الخفوت. والحالة الأوضح في هذا المجال حالة المغرب، حيث حكم الإسلاميون عشرة أعوامٍ وأكثر ثم خسروا في الانتخابات خسارة أسطورية.
وتبقى حالات لم يبحثها لوزانو في المجال البوذي في ميانمار وجوارها. لكن في هذه الحالة لا يمكن التمييز بين الدولة والجيش من جهة، وظهور العصبية البوذية بالفعل من الجهة الأخرى.
وتبقى الظاهرة الأميركية للإنجيليين الجدد. وهي ظاهرة تتسم ببعض الثبات منذ تزعُّم بيلي غراهام قبل أربعين عاماً. فميزة النهوضات الإنجيلية أنها تتحول إلى مؤسسات فلا يعود من الممكن التمييز بين أزمنة النهوض والهبوط أو السقوط. وهنا ينبغي التمييز بين الصحويات والشعبويات. فالمحافظون الدينيون أو المتشددون كان دعمهم لترمب متوسطاً. ودعمه التيار الشعبوي الذي التفّ حول شخصيته الكارزمية. والشعبويات غير الدينيات، وإن تقاطعت الأجندات في مثل منع الإجهاض وإلاّ فإنّ المطالب الشعبوية خاصة وانكماشية؛ والمطالب الإنجيلية عمومية وتبشيرية ومسيانية أحياناً. وعلى أي حال فإنّ فوز بايدن يدل عند بوتنام على هدوء موجات التطرف الإنجيلي وإن لم ينتهِ، بل هو ربما يبحث عن بطلٍ جديد!
ما صنعت الدول الديمقراطية الصحويات لكنها أفادت منها. ثم إنّ تلك الصحويات انقلبت عليها في مثل أفغانستان والعراق. أما في المجال العربي والإسلامي فإنّ الدول الوطنية عانت من هياج الصحويات السياسية والجهادية. وقد تصدعت الموجة وتراجعت لكنها لم تنتهِ، ولم تعد تستطيع اعتراض سبيل الدولة الوطنية الناهضة. أما لماذا كان ذلك كلّه؟ فيُعيد أهل الاستطلاعات ذلك إلى «العولمة» التي تشرذم الكبريات وتخترع الهويات الصغيرة والمتشددة. وهو كلام عام لا يبعث على الاقتناع رغم كثرة ظواهر التغيير الديني الهوياتي بالفعل.