كارثة غزة، لم تتبين آثارها النهائية بعد، ولا يمكن حصر عدد قتلاها حتى لو توقفت اليوم. فضحايا ما بعد الحرب هم أضعاف من يموتون بصواريخ طائراتها وحمم دباباتها.
التقديرات، أن الحروب التي قادتها أميركا منذ تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001، على دول عدة بينها أفغانستان والعراق وسوريا، فيما سمته حرباً على الإرهاب، وشارك فيها الناتو، قتلت نحو مليون شخص. لكن أبحاثاً موسعة قام بها «معهد واتسون للشؤون الدولية والعامة» التابع لـ«جامعة براون»، الأميركية جاءت بنتائج صادمة، وغير متوقعة. تقول الدراسة التي عمل عليها أكثر من 60 باحثاً وخبيراً في حقوق الإنسان والقانون، إضافة إلى أطباء، تم اختيارهم جميعاً من جنسيات متنوعة لضمان الموضوعية، إن عدد القتلى في هذه الحروب وصل إلى أربعة ملايين ونصف المليون شخص، غالبيتهم من النساء والأطفال والفقراء. فمن يقتلون بسبب الجوع والمرض ونقص الأدوية، بعد تدمير المؤسسات ودور الرعاية والتشرد، والتلوث البيئي، والصدمات، والانهيار الاجتماعي، هم أضعاف من يقضون بالضرب المباشر بنيران المعارك. لهذا يحذر الخبراء من أن ضحايا هذه الحروب، رغم مرور سنوات طويلة على بعضها، لا يزال عددهم إلى تصاعد، لأن الأذى المتدحرج لم ينقطع بعد.
الضربات الجانبية التي لم تدخل ضمن الدراسة، كثيرة أيضاً، إذ لم توفر العقوبات الأميركية بلداً معدماً مثل الصومال، وقطعت عنه المساعدات الإنسانية، بحجة أن أفراد «حركة الشباب» التي صنفتها إرهابية، يستولون عليها، وهذا مشابه لما تمارسه إسرائيل في غزة، بمعونة حلفائها، حين تتهم «حماس» بالاستيلاء على المساعدات، ليعود جون كيربي، المتحدث باسم البيت الأبيض، ويعدّ أن لا دليل على ذلك، لكن، في الوقت الضائع، عشرات الأطفال ماتوا جوعاً، و«الأونروا» لا تزال من دون تمويل وتحت تهديد إنهاء الخدمات.
مئات الغارات الأميركية على مدينة سرت الليبية، عام 2016، دمرت مستشفيات، ومراكز صحية، وتركت السكان نهباً للأمراض ومن دون رعاية. للتذكير، فإن ليبيا قبل الحرب كانت الأولى في النمو بين دول أفريقيا.
في إلياذة هوميروس اليونانية «الحرب تصنعها الآلهة»، كما قال هيكتور بعد أن فشل في منع نشوبها مع الإغريق. أما في زمننا حيث كل التفاصيل مكشوفة، فهي حتماً، صناعة الأقوياء المتسلطين، للسيطرة على ما يملكه الفقراء.
بفضل الحروب أطالت أميركا عمر إمبراطوريتها وأحكمت سطوتها على العالم، بثمن متواضع بشرياً، مقارنة بما تسببت به للآخرين؛ مقتل سبعة آلاف جندي أميركي، وثمانية آلاف موظف من مقدمي الخدمات، وبضعة آلاف من الجنود المنتحرين بعد عودتهم من الخدمة، لا شيء، في حساب أهل السلطة. هؤلاء من فقراء الشعب أيضاً، وهم - كما دائماً - وقود الحروب التي يتقاسم غنائمها الأغنياء، بعد انفضاض الأزمة.
إدمان الحروب، وجشع بيع الأسلحة، وتشغيل مصانع الموت، بحسب جامعة براون، هي التي دفعتها إلى دراسة تريد من خلالها أن تكشف عما تسكت عنه السلطات الرسمية، التي تكتفي بإعلان الانتصارات الزائفة، وتتجاهل الحقائق. لا يحكى مثلاً عن 38 مليون نازح تركوا بيوتهم بسبب هذه الحروب التي قادتها أميركا. وهو رقم فظيع، يساوي سكان بلد متوسط بحجم أوكرانيا أو حتى كندا. هؤلاء إما نزحوا داخل بلادهم، أو توزعوا على بلدان المنطقة في غالبيتهم، ما يجعلنا من بين المناطق المنكوبة.
رغم كل ما يحكى عن الأهداف الإنسانية للحروب الأميركية، فإن دراسة جامعة براون تظهر أن تدمير الجيش الأميركي في أفغانستان كان ماحقاً. قبل الحرب كان 5 في المائة من الأطفال فقط يعانون سوء التغذية، وصار نصف أطفال البلاد في هذه المحنة. كما تركت أميركا أفغانستان ووراءها 97 في المائة من الأفغان فقراء، من دون أن نعرف لمن دفعت الـ36 مليار دولار من المساعدات الإنسانية، التي اقتطعت من ضرائب الأميركيين، لنشر الديمقراطية في العالم.
خرجت أميركا من أفغانستان، بعد أن سلّحت ميليشيات إسلامية، لها تاريخ أسود في قتل المدنيين، وذخائر موزعة في أنحاء البلاد، لا توفر مدارس وحقولاً زراعية، تنفجر، وتترك خلفها أبرياء بلا أطراف.
في ذكرى مجازر الأنفال، خرجت السيدة الأولى في العراق شاناز إبراهيم أحمد، تطلب من العالم ألا يخذل أهل غزة، كما خذل العراقيين قبل 36 عاماً يوم دفنوا في مقابر جماعية. حينها لم يكن من وسائل تواصل وكاميرات هواتف. «اليوم نحن نشاهد الإبادة الجماعية على وسائل التواصل وبالنقل المباشر، ولا يمكن أن نتجاهل الجريمة».
حين طلب الأميركيون من إسرائيل ألّا يقعوا في براثن الحماقات نفسها التي ارتكبوها في العراق، فلأنهم يعلمون كمّ الإجرام والخسائر الإنسانية التي جعلت أميركا تخسر بدل أن تفوز، رغم قوتها العسكرية الضاربة. لكن الإجابة الإسرائيلية كانت «لماذا تحرّمون علينا، ما حللتموه لأنفسكم؟!». هذا ليس تبرئة لساحة إسرائيل من جرائمها، وإنما للقول إن النهج واحد. لكن النتائج على إسرائيل ستكون أسوأ، بصرف النظر عن الشكل الذي ستنتهي إليه حرب غزة. فالهزيمة الأخلاقية لدولة كبيرة، مثل أميركا، تختلف جذرياً عن الوصمة التي ستكون على جبين بلد ملحق بالغرب، يعيش بالتنفس الاصطناعي والإمدادات الإنقاذية المتواصلة، ويروج لنفسه بالفرادة والتفوق الحضاري.
الدراسة تحثّ الولايات المتحدة على الاعتراف بجرائمها وذيولها المستمرة، وعلى إنقاذ ما يمكن إنقاذه، وإصلاح ما دمّرته، والنظر في أمر الأبرياء الذين تركتهم خلفها، لا، بل ترى أن التعويضات للضحايا الذين لا يزالون يعانون، أمر حتمي. فهل سنسمع من المحكمة الدولية أمراً مشابهاً بعد أن أصبحت تهمة «الإبادة الجماعية»، أقرب إلى إسرائيل من حبل الوريد؟