بقلم - سوسن الأبطح
قبل الحرب على غزة كانت مجرد المطالبة بمقاطعة من أي نوع لإسرائيل أو المستوطنات في الضفة، مخالفة يعاقب عليها القانون الأميركي في أكثر من 27 ولاية.
لكن تحت وقع شلالات الدم، وغضب الطلاب من مشاركة جامعاتهم في تمويل المذابح، واعتصاماتهم، وخيامهم ومظاهراتهم، وافقت جامعات عدة، على رأسها «هارفارد»، صاحبة أكبر وقف استثماري أكاديمي في العالم، يبلغ 50 مليار دولار، على إلغاء العقوبات عن الطلاب المتهمين بارتكاب مخالفات، وإعطاء منح لفلسطينيين، وفتح مركز للدراسات الفلسطينية. والأهم من كل هذا، أن توافق جامعة «هارفارد» على فتح نقاشات مع الطلاب حول الاستثمارات السخية التي توظَّف في شركات إسرائيلية أو تُسهم في دعم الحرب على غزة. فمجرد الحديث في هذا الموضوع قبل أسابيع كان ضرباً من الخيال!
وافقت جامعات عدة، على مناقشة موضوع الاستثمارات مع طلابها المحتجين، بينها «نورث ويسترن»، و«روتجرز»، أما جامعة «براون» فكانت السبّاقة بالموافقة على إجراء تصويت على سحب الاستثمارات. غير أن «هارفارد» هي تحديداً التي أثارت غضب مناصري إسرائيل وقلقهم، رغم أن ما وعدت به طلابها، مجرد تنازل جزئي وشفاهي، من السهل تمييعه. ومع ذلك فالحملات مستشيطة، لأنها زبدة الزبدة من ناحية، ثم لأن حجم استثماراتها يفوق ميزانيات أكثر من 100 دولة في العالم.
أما جامعة كولومبيا، قائدة الاحتجاجات، بإدارة الدكتورة نعمت شفيق، فلا خوف عليها، إلا أن «مدرسة الاتحاد اللاهوتية» التابعة لها قررت منفردة أن تدعم سحب الاستثمارات من «الشركات التي تستفيد بشكل كبير من الحرب في فلسطين»، وهو ما يجعل مناصري إسرائيل، يتوجسون من أن تكرّ السبحة في الكليات الأخرى، وتفلت كولومبيا من أيديهم.
هؤلاء يشنون حملات تجمع بين التخويف والوعيد. يرعبون الناس من القادم بعد أن تنازلت جامعات لـ«معاداة السامية» وخضعت لأصوات «الكراهية». وثمة ترويج لفكرة أن الاستثمارات لصالح إسرائيل جرى تضخيمها، وهي لا تمثل سوى واحد في المائة. علماً بأن جامعة واحدة فقط، حسب طلابها، توظِّف 6 مليارات دولار في صناعة طائرات حربية وأجهزة مراقبة وتتبُّع تُستخدم في اضطهاد وقتل فلسطينيين. ومن ضمن الاستراتيجيات للجم المحتجين تهديد الطلاب بأن سحب الاستثمارات يعني أرباحاً أقل ورفعاً للأقساط التي سيتحملون فارق تكاليفها من جيوبهم. علماً بأن هناك مَن يؤكد أن الفائض يذهب إلى مصروفات أنانية، وتضخيم للإدارة وموظفيها ومعاشاتهم.
نفوذ كبير للوبي الصهيوني في الجامعات، وضغط قاسٍ على الطلاب، مما يجعل مقارنة ما يحدث اليوم، بالاحتجاجات الجامعية لإنهاء حرب فيتنام، أو محاربة نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، غير عادلة. وقتها سحبت 155 جامعة استثماراتها، وكان ثمة خجل واضح من دعم العنصرية، مما جعل الحكومة ترضخ رسمياً للمطالب عام 1986.
لكنَّ العلاقة بين أميركا التي تضم أكبر جالية يهودية في العالم، وإسرائيل التي يعيش فيها نصف مليون شخص يحمل الجنسية الأميركية، يجعل كل طلب بالفصل بين مصالح الطرفين، عُرضة لهجوم لوبيات شرسة، برؤوس متعددة.
رغم ذلك، تحقق في وقت قياسي، ما لا يمكن التغاضي عنه، ومن الصعب العودة إلى الوراء، لأن الأعين فُتحت على تجاوزات معيبة. الكرة تتدحرج مع تراكم الأسئلة: هل يُعقل أن الطلاب هم من يطالبون إدارتهم بالتزام الإنسانية والقيم بدل أن يحدث العكس؟ وكيف لمؤسسات رائدة، في البحث عن الحقيقة والدفاع عنها، تضم أشهر جامعات الحقوق والفكر، تخون ما تعلّمه لطلابها، وتموِّل بأموالهم أبشع جرائم العصر، وأفظع الحروب؟ هل يحق لجامعة، بذريعة البحث عن الربح أن تستثمر مداخيلها في شركات تصنِّع الأسلحة الفتاكة، وقنابل تقتل مدنيين، وطائرات تقصف البيوت والمدارس؟ وكيف لإسرائيل التي دمَّرت 80 في المائة من مدارس وجامعات غزة، أن تنفّذ جرائمها بأموال طلاب الجامعات الأميركية؟
«رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة»، وما حققه طلاب أميركا مجرد بداية متواضعة لحلحلة رباط عمره عقود شبيه بالزواج السرِّي بين جامعات النخبة الأميركية وإسرائيل، نعرف بعضه ونجهل أغلبه. ولولا شلالات الدم المراق في غزة، والأبحاث المضنية التي يقوم بها الطلاب، لما عرفنا بعضاً من خيوط تلك الخريطة المعقدة التي يتشابك فيها السياسي بالمالي بغطاء أكاديمي موقّر، وتحركها الأصابع الخفية للوبي الصهيوني.