لم تكن الاحتجاجات الطلابية، يوماً، أمراً عابراً في أميركا. وجلّ ما تخشاه أي سلطة، غضب الشباب، لأن ردعهم صعب، ومنعهم يزيد من حدّة إصرارهم. ولا تزال ثورة 1968 الطلابية في فرنسا، تشكّل منعطفاً تاريخياً، تغيرت بعدها قيم وتبدلّت مفاهيم. والشدّة التي تواجه بها سورة الطلاّب في أميركا، واعتصاماتهم ضد الصلف الإسرائيلي والظلم الذي يتعرض له الفلسطينيون، سببها معرفة أولي الأمر، أن الشرارة التي تندلع داخل الجامعات ليس من السهل إطفاؤها، أو السيطرة عليها.
فالاحتجاجات الطلابية في أميركا، لعبت دوراً عند كل مفترق اجتماعي وسياسي، من ثورة تحرير العبيد، إلى حرب فيتنام، وحتى خلال نضال السود ضد نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا. وكان من بين ما فعله نيلسون مانديلا بعد إطلاق سراحه عام 1990، زيارة جامعة «كاليفورنيا»، لشكر طلابها وأساتذتها، واعترفاً بدورهم حين أرغموا جامعتهم على سحب استثمارات لها بمليارات الدولارات، مع حكومة الفصل العنصري، وقد وصفهم يومها بأنهم «إخوته وأخواته في الدم».
ما يريده المحتجون الجامعيون في أميركا اليوم شبيه بالأمس، أبرزه وقف إطلاق النار في غزة، ومنع المساعدات العسكرية عن إسرائيل، وسحب استثمارات الجامعات من شركات متورطة معها، والعفو عن الطلاب والمدرسين الذين أنزلت بهم إجراءات عقابية.
طلاب «كولومبيا»، الأكثر اشتعالاً، يطالبون جامعتهم منذ عام 2002 بسحب استثماراتها من إسرائيل، ويرون اليوم، أن الأوان قد حان للإصغاء لمطالبهم، بعد أن وصل الأمر إلى حدّ الإبادة.
وفي تلك السنة أيضاً نشر باحثان بريطانيان من جامعة «برادفورد»، رسالة مفتوحة دعوا فيها إلى وقف جميع الروابط الثقافية والبحثية مع إسرائيل. ومع كل حرب تشتعل ضد غزة كانت المقاطعة الأكاديمية تتصاعد، ونرى جامعات في إيطاليا وكندا وأميركا وأستراليا، ومجموعات بحثية، تعلن مقاطعتها لجامعات إسرائيلية إضافية، وباحثين وحلقات علمية.
لكن إسرائيل بسبب عجرفتها، كانت ترى هذه الحركات، حالات معزولة، ولم تتنبه حتى إلى خطورة ما يدور في جامعات نيويورك، معقل مليوني يهودي، أكبر جالية في العالم خارج إسرائيل، ولم تأبه لمقاطعة «جمعية الدراسات الأميركية» عام 2013، إحدى أهم نقابات البحث العلمي في أميركا، وتضم 5 آلاف باحث.
تشكلت الحملة الفلسطينية للمقاطعة الأكاديمية والثقافية لإسرائيل منذ عام 2004، بوصفها جزءاً من حركة المقاطعة التي صدرت ضدها قوانين في 35 ولاية أميركية، لردعها. لكن النتيجة عكسية، وبعد المجازر التي بدأتها إسرائيل في غزة عام 2023 انتفض طلاب العديد من الجامعات الكبرى، ما جعل استقبال الباحثين الإسرائيليين أو التعاطي معهم أمراً في غاية الصعوبة. ويتحدث 60 باحثاً إسرائيلياً عن طردهم من المجموعات البحثية العالمية منذ اندلاع الحرب الأخيرة على غزة. وهؤلاء لا يخشون المظاهرات أو الخطابات، بقدر ما يتهيبون العزل والتهميش عن المجتمع البحثي والعلمي الدوليين، ويتحسبون من الإجراءات التي تتخذ في الجامعات الأميركية، بصمت، دون أن يعلن عنها. وهذا مرجح، مع الضغط الكبير للطلاب، في ظل مصالح كبيرة جداً بين الطرفين.
شباب جامعة «ميشيغان» المرابطون في حرمها يشتكون من استثمار جامعتهم مليارات الدولارات في شركات تنتج طائرات موجهة وأخرى حربية تستخدم في إسرائيل، ومعدات مراقبة توضع على نقاط التفتيش في غزة.
طلاب منتفضون في جامعتي «هارفارد» و«ييل» يتحدثون عن نقص في الشفافية، وطلاب معهد «ماساتشوستس» للتكنولوجيا نشروا أسماء لأساتذة على أنهم متورطون بقبول أموال إسرائيلية لمشروعات تساعد على صناعة طائرات موجهة، ومعدات مضادة للصواريخ. لا بل طلاب يهود متعاطفون مع فلسطين يتهمون المعهد بالتواطؤ المباشر في الحرب، ومصرّون على المحاسبة.
الشكوى الرئيسية هي من استثمار مبالغ طائلة للجامعات بطريق متشعبة وغير مباشرة، بحيث تصعب معرفة حقيقة توظيفها. كما أن ثمة هدايا تصل إلى الأساتذة مقابل مشروعات وعقود قد تكون عسكرية، لا يتم التصريح رسمياً عنها.
فبحسب البيانات الرسمية، لم تبلغ طوال العشرين سنة الماضية، سوى 100 كلية أميركية عن عقود مع إسرائيل، يبلغ مجموعها 375 مليون دولار فقط، فيما الحديث عن مليارات الدولارات.
المسألة إذن أميركية تتعلق بالسياسات الداخلية، وتحمّل المسؤوليات، وتقاطع مصالح. وقد تم الافتراء على الطلاب المحتجين، واتهموا بمختلف الموبقات. وصفوا بأنهم معادون للسامية، إرهابيون وممولون من إرهابيين، وأخذ عليهم أنهم دعوا لقيام فلسطين من البحر إلى النهر للقول إنهم يريدون قتل اليهود. مع أن نتنياهو وقف أمام العالم أجمع في الأمم المتحدة، حاملاً خريطة ادعى أنها لإسرائيل، حدودها من البحر إلى النهر، ولم يحاسبه أحد. وتؤكد جهات محايدة، أن غالبية الحركات الطلابية سلمية، وجلّ ما تريده هو أن ترى حدّة الظلم تتراجع. فما يحدث في فلسطين ليس شبيهاً بالاحتجاجات ضد جنوب أفريقيا. أميركا جزء من الحرب بل من دونها لا مال ولا سلاح. ورصد 95 مليار دولار، في الأيام الأخيرة لتمويل المزيد من الحروب، بينها 26 مليار لإسرائيل تزيد من حدّة غضب الأميركيين، الذين يعانون تضخماً غير مسبوق، وحالة اقتصادية تحتاج إلى تدخل إنقاذي، فيما تعطى الأولوية للأسلحة وتمويل الإبادة والقتل.
لا يريد الطلاب أن ترتكب المجازر باسمهم، بينما تخشى الجامعات، خسارة تمويلاتها السخية، ومداخيلها، وبعض الأساتذة يدافعون عن هدايا وعقود لا يصرحون بها، ومديرون ورؤساء لا يريدون أن يقالوا من مراكزهم. ويبقى أن الصوت الطلابي هو الأنقى في كل هذه المعركة، ويعامل اليوم في أميركا بالمهاجمة في الحرم الجامعي، وهذا معيب حتى في دولة متأخرة من العالم الثالث، فما بالك وقد تم تهديدهم بالحرس الوطني؟!