توقيت القاهرة المحلي 11:54:09 آخر تحديث
  مصر اليوم -

عباس العقاد بلا بيت

  مصر اليوم -

عباس العقاد بلا بيت

بقلم - سوسن الأبطح

بعد عامين، تكون 60 سنة قد انقضت على وفاة صاحب «العبقريات»، وهي فرصة لتحقيق حلم محبي عباس محمود العقاد في إنقاذ منزليه في أسوان والقاهرة، وتحويلهما إلى مزارات لعشاق أدبه، بدل تركهما نهباً للضياع. فلا يكاد يمضي وقت إلا ويخرج علينا أحد أفراد عائلة العقاد، يشكو من أن أحد المنزلين مهدد بالزوال. ومن الغريب ألا يكون للعقاد نصيب طه حسين، وأحمد شوقي في الاهتمام بإرثه، أو حظ نجيب محفوظ، رغم أنه أحد أكبر أدباء العرب في القرن العشرين، وأشدهم بأساً وعناداً والتزاماً بالقضايا التي دافع عنها.
من يدخل مدينة أسوان، يستقبله تمثال العقاد العملاق بهامته الشاهقة. ومع أن العائلة لم ترضَ عن هذه المنحوتة لأنها لا تشبه بالقدر الكافي صاحبها، فإنها على الأقل تذكّر الزائر أنه يطأ مدينة أنجبت رجلاً فذاً. عبثاً تبحث عن المنزل، الذي تكتشف فيما بعد، أنه أشبه بخرابة، ولا شيء فيه يستحق الزيارة. أما حين تقع عينك على مبنى كتب عليه «قصر ثقافة العقاد» وأنت تعبر كورنيش النيل الذي تصطفّ فيه عشرات العبّارات السياحية، وتعرف أن بعض مقتنيات الأديب موجودة فيه، تشعر أنك عثرت على كنز. حدث معي هذا، فهرعت مسرعة صوب قصر العقاد، لأجده مغلقاً. كدت أفقد الأمل حين قيل لي إن الشخص الذي معه المفتاح ليس موجوداً. بعد الترجي والتمني، والتوسل، حضر المفتاح ودخلت المكان، وكأنني أمام فتح لم يسبقني إليه أحد.
على عكس كل متاحف الأدباء، وربما بسبب قلة الزوار، يمكنك أن تلمس كل شيء، أن تتناول مؤلفات من مكتبة العقاد وتتصفحها، ترى الملاحظات التي دوّنها. أن تجلس على سريره أو كنبته، أن تفتح أدراج مكتبه الذي كان يدوّن عليه مخطوطات كتبه، ولدهشتك تجد بعض الحاجيات التي لا تزال هنا. لا يُفهم كيف تركت كرفتات وبيريهات العقاد الشهيرة، ولفحات الرقبة على مشجب، يمكن لأي زائر أن يضع ما يختاره منها في جيب أو حقيبة. مكشوفة نهباً للغبار والتآكل السريع، بدون أي عازل يحميها، الأمر نفسه ينطبق على روب النوم الشتوي البني الشهير، الذي يظهر فيه في كثير من مقابلاته الأخيرة. فالمكان لم يُعدّ ليكون متحفاً، والمقتنيات معروضة كأنها وجدت بعفوية، والدعاية لها معدومة.
الضيم الواقع على العقاد تجاوز أسوان، ووصل إلى بيته في القاهرة، الذي ضم، ذات يوم، أشهر صالون أدبي عرفه العرب في عصرهم الحديث. ثمة إهمال رسمي عربي للثقافة عموماً. فهي ليست من ضمن الأولويات، لأن المسؤولين لا يصدقون أنها استثمار مربح. أسوان يزورها ملايين السياح، ومن الإجحاف ألا يتحول بيت العقاد هناك إلى مؤسسة ومتحف، تباع تذاكره كما بيت بلزاك في باريس أو فيكتور هوغو.
إهمال بيوت الأدباء والفنانين العرب بات مزمناً وخطيراً. ففي لبنان، باستثناء متحف جبران خليل جبران في بلدة بشري، الذي يمول نفسه ذاتياً، بفضل خطة وضعها له الأديب قبيل موته، فإن ما يتركه الأدباء خلفهم يتحول إلى عبء، وربما لعنة. ميخائيل نعيمة مقتنياته موزعة بين بيتين، ترعاهما العائلة، قدر ما تستطيع. بيته الشتوي في الزلقا، الذي قضى فيه السنوات الأخيرة، تحول إلى سكن للطلبة ونقلت المقتنيات إلى بيت جديد. مارون عبود منزله في عين كفاع، لا يزال جزءاً منه على حاله، بفضل أحفاده، لكن إلى متى؟ هذه البيوت إما مستأجرة كحال منزل العقاد في مصر الجديدة، أو هي ملك عائلي لا بد أن ينتفع به أصحابه. فأن يكون الأب أو الجد، أديباً كبيراً، لا يعني أن يتحول إرثه إلى وقف، وتركته إلى مهمة مستحيلة. أمين ألبرت الريحاني، يرعى منزل عمه أمين الريحاني، يرعى المتحف بجهد كبير، لكن هذه المشروعات مكلفة ومتعبة، وتحتاج إدارتها كمؤسسات، ورعايتها كمشروعات وطنية وأن يتم السعي لتطويرها باستمرار.
تحزن حين ترى فندقاً من الطراز الحديث في ميدان التحرير، في القاهرة، شيد على أنقاض منزل هدى شعراوي. ولا أزال أسأل نفسي عما حصل لمقتنيات الشاعر إلياس أبو شبكة التي كانت ذات يوم في حوزة زوجته، وبطلة قصيدته الشهيرة «غلواء». كان بين المقتنيات أثاث منزله، ولكن أيضاً كتبه ومخطوطاته ونظّارته وهويته اللبنانية. في جولة على منازل الأدباء، كنت في كل مرة أجد عائلات، تفتح أبوابها، وخزائنها، وتستقبل من يسأل ويهتم، بكرم بالغ، وتحتضن الإرث بمحبة وحنو، ولكن إلى متى؟
الحفاظ على آثار الأدباء ليس ترفاً. فأكثر ما يحتاجه الجيل الجديد هو القدوة والنموذج، والمرجعية، ومن دون هؤلاء الكبار، لن يجد النشء من يركنون إليه، من يسمعون صوته، أو يصغون إلى فكره. شبابنا يعيشون فراغاً روحياً، وكأنهم في متاهة. لذلك، لا يكفيهم أن يقرأوا الأدب، بل يحتاجون أن يروا أن مَن كتب إنسانٌ مثلهم، يأكل وينام، وله سرير ومكتب وملابس وأوراق وأقلام، وبيت بسيط يعيش فيه مكتفياً، لكنه، مع ذلك، تسلق ذرى وقمماً، يشتهون بلوغها.
من غير الجائز أن يُعتنى بقبر عباس محمود العقاد في أسوان أكثر من بيته الذي استقبل ندواته واحتضن كتاباته، واليوم تصدعت جدرانه، وصار محمولاً على سقالات خشبية، وأوشك على الانهيار بسبب فيض المياه الجوفية، وطول الإهمال. فالأديب الكبير يحتاج إلى منزل، ونحن نريد أن نستظل بهذا البيت ونركن إلى فيئه. للبيوت حرماتها، لكن لبيوت الأدباء أرواح، وعِبر ومسارب إلى حيوات كثيرة أخر.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

عباس العقاد بلا بيت عباس العقاد بلا بيت



GMT 14:59 2024 الثلاثاء ,03 أيلول / سبتمبر

مشاهد مُستَفِزَّة.. “راكبينكم راكبينكم..”!

GMT 06:36 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

… لأي قائمة يسارية ديمقراطية نصوت ؟!

GMT 06:23 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

ماذا قال يمامة؟

GMT 06:16 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

مشكلة إصلاح التعليم

GMT 07:57 2024 الأحد ,21 تموز / يوليو

رصاصة النجاة

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 00:26 2021 الأربعاء ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

كريستيانو رونالدو يضيف لسجله أرقاماً قياسية جديدة

GMT 10:18 2020 الجمعة ,26 حزيران / يونيو

شوربة الخضار بالشوفان

GMT 08:15 2020 الثلاثاء ,09 حزيران / يونيو

فياريال يستعين بصور المشجعين في الدوري الإسباني

GMT 09:19 2020 الجمعة ,24 إبريل / نيسان

العالمي محمد صلاح ينظم زينة رمضان في منزله

GMT 09:06 2020 الأربعاء ,22 إبريل / نيسان

تعرف علي مواعيد تشغيل المترو فى رمضان

GMT 12:50 2019 الثلاثاء ,31 كانون الأول / ديسمبر

علالو يؤكّد الجزائر "تعيش الفترة الأهم في تاريخ الاستقلال"

GMT 04:46 2019 الأحد ,29 كانون الأول / ديسمبر

اتجاهات ديكور المنازل في 2020 منها استخدام قطع أثاث ذكي

GMT 00:42 2019 الثلاثاء ,24 كانون الأول / ديسمبر

بدء تصوير فيلم "اهرب يا خلفان" بمشاركة سعودية إماراتية
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon